تل أبيب ومشروع الصواريخ الدقيقة في لبنان: «استراتيجية الصمت» في مواجهة حزب الله
لا تغييرات كبيرة في مستوى ودائرة التهديدات الماثلة أمام إسرائيل، وإن كان تعاظمها وارداً أكثر، قياساً بذي قبل. ساحات التهديد باتت أكثر تشابكاً وتعاضداً في ما بينها، بدءاً من إيران، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان، وصولاً الى قطاع غزة، مع إشارات دالّة على حضور خاص للوافد اليمني إلى قوس التهديدات وساحاتها. وهذا التعاظم، بما يشمل التمركز العسكري القريب جداً من حدود فلسطين المحتلة في أكثر من ساحة، لا يبدو أنه تأثّر كثيراً، الى حد التشويش الفعلي في المسارات، بعد سلسلة اعتداءات أميركية ــــ إسرائيلية في المنطقة، كانت قاسية على مجمل المحور ومركباته.
مقابل ذلك، لا تغيير حاسماً من ناحية تل أبيب في مواجهة التهديدات وتناميها: استمرار «المعركة بين الحروب» ــــ على قصورها ــــ في العمل على التصدي المسبق لمكامن القوة؛ العمل على إبقاء الحضور الأميركي العسكري قائماً ومتواصلاً وفاعلاً في المنطقة، ومن ثم التحريض على تصدّيه مباشرة لـ«معالجة» ما يهدد إسرائيل؛ في حين أن الحروب، بهذا القدر أو ذاك، باتت «أكثر معقولية» نسبياً، وخاصة إذا واصل الطرفان التمسك باستراتيجيتهما المتقابلة:
تعظيم الاقتدار العسكري لحزب الله استعداداً للحدّ من عدائية إسرائيل عبر ردعها؛ مقابل إصرارها على مواجهة هذا التعاظم والحدّ منه.
هذه هي خلاصة ما ورد في كلمات المؤتمر السنوي الـ 13 لمعهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب (28 الى 30 كانون الثاني 2020)، الذي جاء هذا العام تحت عنوان «نظرة الى العقد المقبل». الكلمات، والندوات وطاولات النقاش، وكذلك «محاكاة الحرب المقبلة»، جاءت مشبعة، وفي أكثر من اتجاه، وبرز فيها عدد من المسؤولين الإسرائيليين، السياسيين والأمنيين وخبراء، إضافة الى محاضرين من خارج الكيان.
ما خص الساحة اللبنانية، وإمكانات التصعيد والمواجهة فيها، برز اتجاه شبه سائد في كلمات المحاضرين، وأهمها كلمات المسؤولين العسكريين الحاليين، عن «معقولية نسبية» قياساً بما كان عليه التقدير سابقاً، في أن يتسبب الطرفان أو أحدهما، بمواجهة واسعة نتيجة فهم خاطئ لموقف الطرف الآخر أو «زيادة جرعة» المجازفة لديه. لكن مع التشديد، المقابل، على أن الطرفين غير معنيين بنشوب حرب.
واحدة من العبارات الدالة على التقديرات السائدة في المؤتمر، بما يتعلق بالساحة اللبنانية، كانت على لسان مدير الاستخبارات المركزية الأميركية السابق، الجنرال ديفيد بترايوس، الذي أكد في كلمته أن «حزب الله لن يخاطر بحرب كاملة في مواجهة إسرائيل، ما لم يتمّ حشره في الزاوية». المعنى، أن على إسرائيل، التي يؤكد مسؤولوها أنها غير معنية أيضاً بنشوب حرب، أن لا تتجاوز الحد الذي يعدّ من ناحية حزب الله «حشراً في الزاوية». وهذا واحد من أهم أهداف تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية وأكثرها إشغالاً لها.
في توصيف تهديدات الساحة اللبنانية وتناميها، ورد في كلمة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، تامير هايمن، تأكيد ما يأتي:
«لدى حزب الله منظومة عسكرية هي الأقوى من بين المنظومات العسكرية الأخرى التي تقارع إسرائيل، وهي تشمل قوات خاصة متموضعة على طول الحدود اللبنانية، ولديها القدرة على شن هجمات مفاجئة واحتلال أجزاء من دولة إسرائيل، إضافة الى امتلاك حزب الله كميات هائلة من الوسائل القتالية من كل الأنواع: صواريخ وقذائف صاروخية وطائرات مسيرة مفخخة، إضافة الى مقاتلين يمتهنون المهمات الدفاعية والهجومية».
مع ذلك، يؤكد هايمن بين السطور أن كل ذلك قابل نسبياً للتعايش معه في سياق الاستعداد لمواجهته، إلا ما سماه «مشروع الدقة»، وهو امتلاك حزب الله صواريخ دقيقة، سواء عبر التزود بها أو تصنيعها:
«بخصوص مشروع الدقة لدى حزب الله، فهو مشغول بتحويل الصواريخ الى دقيقة بشكل يهدد أمن دولة إسرائيل، وهذا التهديد يعدّ من ناحية الأمن القومي الإسرائيلي خطيراً جداً. وهو يزعزع الاستقرار في حال استمراره، ويمكن بنسبة معينة أن يؤدي الى عملية مضادة». لكن ما هي هذه «العملية المضادة»؟ نسبة الإبهام كبيرة، وكذلك هي الحال في الإجابة عن السؤال نفسه. علماً بأن في كلام هايمن أهدافاً تهديدية تتساوى مع ما فيه من أهداف عرض جدية الموقف الإسرائيلي في مواجهة «مشروع الدقة» التي تقول إن حزب الله يعكف على تفعيله.
يتقاطع ذلك مع ما ورد في كلمة رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، أهارون حليفا، وإن كانت عباراته أكثر تنميقاً: «رد إسرائيل على الصواريخ الدقيقة (لدى حزب الله) هجومي، ولا ينبغي لنا أن نكون غافلين، فهذا التهديد موجود فعلاً ونستعد لمواجهته هجومياً ودفاعياً؛ وإذا كان تعريف هذا التهديد (الصواريخ الدقيقة) استراتيجياً، فهذا يوصل بإسرائيل إلى بلورة رد استراتيجي مقابل له، يتعذّر عرضه بالكامل لأسباب يحظر تداولها. ونحن نعمل ساعات طويلة على هذا الموضوع لنوفر الأمن لشعب إسرائيل مع الحرص على تمكين الجيش الإسرائيلي من أداء وظائفه، وهو يحدث بصورة هجومية، حيث الصمت فيه أفضل».
يثير كلام حليفا جملة أسئلة: ما هو هذا الرد الاستراتيجي جداً، وفي الوقت نفسه الصامت جداً؟ وإن كان مفهوماً، ربطاً بطبيعة إسرائيل، أن تستعد لمواجهة التهديد هجومياً، لكن ما الذي يعنيه أن تستعد دفاعياً؟ وهل في كلامه نوع من الإقرار المسبق أو اللاحق بـ«تملّص» ما تقول إسرائيل إنه «مشروع دقة الصواريخ» في لبنان؟ وماذا تعني أن استراتيجية المواجهة «يحظر تداولها»، إن كانت استراتيجية رد كبيرة جداً توازي التهديد الاستراتيجي المقابل؟ والأهم، ما الذي يعنيه في تمكين الجيش من القيام بوظائفه؟
إذاً هي مواجهة صامتة غير صاخبة. هذا ما يستدل عليه من آخر المواقف الصادرة عن تل أبيب، وإن جاءت في سياقات التأكيد على تعاظم التهديدات وتناميها، وفي الساحة اللبنانية تحديداً. المعنى أنها ستكون مواجهة أمنية ــــ سياسية مع الكثير من الضغوط غير المباشرة والبدائل غير الحربية، وإن كانت في ذاتها أيضاً محفوفة بالمخاطر التي لا يريد الطرفان إيصالها الى عتبة الحرب. السؤال المفترض أن يطرح على طاولة البحث، ومن شأن الإجابة عنه أن تكشف عوامل ومسببات موقف إسرائيل الذي يمنعها من المواجهة الصاخبة: ما الذي يدفع تل أبيب كي تشخص تهديداً «استراتيجياً وخطيراً جداً جداً»، ومن ثم تعتمد لمواجهته «طرقاً صامتة» وبدائل غير حربية؟
صحيفة الأخبار اللبنانية