تمرين لحرب الفراغ في معبد الدولة (وائل عبد الفتاح)

 

وائل عبد الفتاح

في متاجر الصور يبيعون الصور القديمة فقط. مازالت الظاهرة مستمّرة. نجوم الأبيض والأسود. حنين الى لحظة هاربة يسمّونها "الزمن الجميل" لتوافق هواة السنتمنتالية أو "العصر الذهبي" للذين يضعون على سنتمنتاليتهم قشرة سياسية تشير الى عصر بعينه… خمسينيات أو أربعينيات للمشتاقين الى فخامة الملكية او الستينيات لمن يريدون رفع الأكمام والظهور في موقع المتحدي للعالم.
اللحظة بلا خطاب. ولا فكرة. رغم أن ثورة 25 يناير فككت العقد المتوارثة وفتحت أدراج متربة لملفات مسكوت عنها. الادراج مشحونة بالاشباح. والقطاع العريض من المجتمع دخل في صفقات البحث عن الاستقرار ما دام التغيير اتى بالغزاة اصحاب الذقون والكلام الفصحى وحاملي توكيلات الله. الاستقرار أصبح الدين الجديد. وكما أن الدين القديم من الأصولية أو تحالف منتظري الخلافة مع مؤسسات السلاح لم يحتمل أقل من عام واحد فإن الدين الجديد يعاني من نفس المرض اللعين. لا يعرف التعامل مع اللحظة الراهنة. لايجيد فهم التغييرات. لاخطاب له.
ولأن الدين الجديد ليس جديداً فإنه يفتقد الأسس الأولى لانتشاره… فالدين لينتشر لا بد ان يلعب على طبقة او شريحة او قطاع منسي او مهمّش أو مسافر في مكانه، ليحمل الدين ويوسع له مساحات ويغير موقعه حسب انتشاره.
لهذا اتى عبد الناصر منحازاً إلى قطاعات مهمّشة، ودولته صمّمت نفسها لتكون مصانع موظفين يبنون دولة تتحدى العالم وكذلك السادات بحلمه الاميركي حيث ستملك الى اخر ما تقودك قدماك… ومبارك كان وقتاً مستقطعاً. طيران تحت الرادار. وبعد قتل الحاكم وسط جيشه انتظر الناس مرشداً للهدوء… عائش في المسافات البينية بين الزمن الناصري والساداتي… وحتى لهذا الوسطي الفاقع في وسطيته كان له خطاب.
وهذه أزمة الحملة الرئاسية للسيسي فهو المبشّر بالاستقرار وموحّد الطبقات تحت رايته. كيف سيكون الخطاب؟ خاصة بعد سقوط حاكم وثورة شعب وانهيار طبقة سياسية؟
هل سيكلمون " الشعب المطحون" برطانة تقليدية عن العدالة الاجتماعية؟ هذا ما يريده الجناح الاستشاري (عمرو الشوبكي وعبد الجليل مصطفى و خالد يوسف ومصطفى حجازي وياسر عبد العزيز…) وكلهم لهم خلفيات في صناعة خطاب إرضاء الطبقات المطلوب ترويضها لتعمل طبقات اخرى في تكوين ثروات مسيطر عليها… يمكنها تعويم البلاد لتستمر وتعويم القطاعات المنسية في بحيرة هبات واسعة.
ذلك الجناح واحد من ثلاثة اجنحة في الحملة تعمل لكل منها منفردة. عقل وادارة و توجهات. جناح يديره عمرو موسى كأب روحي لموظفي مبارك الذين حافظوا على مقعد فوتيه وسط مستنقعات الفساد.
عمرو موسي بحملته تقريبا و شركات الدعاية نفسها (اسمها للصدفة CC)، وفي الطرف الآخر يقود اللواء عباس كامل (المتوقع له موقع رئيس الديوان) جناحا مستقلا بشركة دعاية تخصصت في الحملات الاعلانية للجيش خلال السنوات الاخيرة ومساعدة وزير الشباب (خالد عبد العزيز) وخبرة نجم الميديا والبروباغندا الشهير طارق نور الذي لعب في سنوات مبارك الاخيرة دور "المثقف العضوي" عبر اعلاناته ومشاريعه (اهمها صكوك بيع الشركات العامة).
الجناح الثالث هو الأخف والأسرع و المعبّر عن قدرات مجرّبة في ادارة آخر عشر سنوات لمبارك. تحمل الاعلانات بروغراماً ارشادياً موجهاً من الدولة الى المواطن. اعلانات تفترض مواطناً محاصراً داخل المصيدة… ينتظر رسائلها الودودة تجاهه.
تختفي هنا جحافل الشرطة والموظف البيروقراطي والمؤسسة القاتمة القاسية… وتظهر بألوان مبهجة ومشاهد تلطف من جهامة الدولة وأنيابها المكشِّرة دائما.
الاعلانات تقود المتفرج الى حالة "المواطن الصالح" الذي تستحقه دولة تعلن عن دينها الجديد… والاعلانات ليست مجرد وسيط لكنها اله جديد يرمم الدولة الجريحة.
يخرج مصمم الاعلانات من كواليس الحزب الذي كان مهيمنا على السلطة ليصبح مع تضخم مساحة الميديا هو صانع الصور وقائد سري للجماهير وصائغ وعي الدولة بنفسها والمواطن بنفسه.
مثقف عضوي بتعبير غرامشي الشهير. يعرف مصالحه، ومصالح الدولة و يوجّه المتفرج الى مصالحه.
مصمم الاعلانات شريك في تصميم توجهات الدولة في دينها الجديد. مبشّر بالمجموعات الصاعدة الى السلطة. يحاول العثور على صيغة خفيفة لتمرير صورة الدولة الجهمة بصوتها المتعالي القادم من خارج الصورة… من منطقة غامضة… يقول الحقيقة ولا يراجعه فيها احد.
الصوت الأعلى من الجميع يوجه رسالته كأب حنون، او مدرّس ودود، يملك قوة السلطة لكنه يبدو لطيفاً… ناصحاً… حكيماً.
يخرج الصوت من طبقات عميقة لتبلغ الناس بأن "مصر هاتبقى قد الدينا".
في عقيدة هذا الجناح فإن الخروج من النفق سيأتي عبر ادارة الماكينة او كما يسمونها "عجلة الانتاج"… بدون التفكير كيف تدور؟ وبأي اهداف أو لصالح من؟ وكيف ستغير دورانها حتى لا يصب في أرصدة طبقة صغيرة حول مركز الحكم كما تكونت العصابة لقديمة؟
المهم العجلة ودورانها، و هو ما يعني ان الاستثمار في حد ذاته وبشكل مطلق بعيد عن التفاصيل هو الحل والأمل. ليس في نوعه او خطط التنمية. الاستثمار يعني الرزق، أي ثري يصرف و عمال يجدون لقمة العيش. مفاهيم تجعل البزنس رحلة وطنية. ومصر هي الهدف و ليس الاموال او حتى النجاح.
الفرد هنا وطن. والشركة وطن. وكل شيء من اجل مصر… وللمصريين… الصحيفة والمجمع الاسكاني ومساحيق الغسيل… وحتى "حفاضات الاطفال".
هذه نوعية اعلانات تكرّس صورة الدولة المهيمنة من دون أن ترى جسدها الضخم. دولة حنونة يسعى الشعب الخامل امام الشاشة اليها لخدمتها وللاستمتاع بحنانها معاً.
ماكينة وطنية… ثقيلة وقاسية رغم حنانها في شرائح اعلانات يقطعها برامج ومسلسلات تحاول المنافسة في خدمة الوطن.
منافسة مرهقة.
هل ستعود او تصلح لنشر الدين او لاكمال الحملة الرئاسية التي دخلت مرحلة الإثارة ليس فقط بحثا عن مقرها السري (وصف موخراً بأنه ثكنة عسكرية ذات طابع مدني في التجمع الخامس)، لكن بسبب صراع اجنحتها وحيرتهم في العثور على خطاب.
الصراع حول فراغ سياسي هائل يبتلع كل المحاولات ووفق مجال تمتص فيه السياسة لصالح ترويج الدين الجديد، وهذا الصراع يشغل حيز النقاشات السياسية ويشير الى صراعات حول المواقع يجسّدها الخلاف في الحملة، فالاستشاريين اعترضوا على برنامج لم تذكر فيه الا المشاريع التي يوعد بها السيسي. مشاريع من دون مفاهيم ولا اشارات من النوع المريح مثل العدالة الاجتماعية او الحريات العامة. البرنامج الذي أعدّه رجال اعمال يرى ذلك "رطانة فارغة" و"تفلسف" و"تنظير" رغم انها مجرد ميل شعاراتي ستأكله الممارسات كما هي العادة.
كما أن الشفاشقة (من مؤيدي احمد شفيق) يريدون نصيباً، فهم الجنود الميدانيون بقدرتهم على لملمة شتات "الحزب الوطني" وخاصة قواعده ومحترفي البروباغندا (بينها شركة دعاية استخدمها احمد عز في مخطط السنة الاخيرة لقفزة الحرس الجديد) التي لا ترى مبرراً لصعود عمرو موسى الذي كان رقم 5 في الانتخابات الماضية بل واحتلال هذه المجموعة لمواقع المتحدث الرسمي.
الفراغ يتسع اذاً، فهل نعود الى ايام الفرجة والتنصت على صراع الاجنحة في معبد الدولة؟ وحينها ستبيع المتاجر صور كمال الشاذلي و صفوت الشريف وجمال مبارك واحمد عز هروبا من جحيم لحظة لا لون لها… او تجتمع فيها كل الالوان، والخبراء يعرفون مانراه حين تجتمع الالوان كلها في طيف واحد.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى