توتر غير مسبوق بعد قمَّة بايدن- بوتين.. هل ينتهي على خير؟
لم تكد تنتهي قمة بايدن- بوتين الأخيرة في جنيف. والتي جاءت مباشرة بعد جولة طويلة للرئيس الأميركي “العجوز” في القارة العجوز. فيها ما فيها من “غسيل قلوب”. تصحيحاً لمرحلة “ترامب الصدامية”.
وما فيها من حشد أطلسي غير مسبوق، أولاً لشدّ عصب الحلف (شمال الأطلسي– الناتو). الذي بقي يمثل التجمع الأكثر تعبيراً عن استمرار الحرب الباردة، ولو عملياً، وثانياً لفرز دُوَلِه.
بين من يؤيد المواجهة الوجودية ضد الصين وروسيا ومن يقف ضدها. من دون مواربة أو خجل، حتى بدأت الرسائل الجدية الأكثر تعبيراً عن انطلاق المواجهة بالتحرك: حاملات الطائرات والمدمّرات والغواصات النووية والقاذفات الاستراتيجية التابعة للناتو وروسيا والصين، مع المستوى المتواضع للأخيرة مقارنة مع قدرات الناتو والروس.
صحيح، ليست هذه المرة الأولى التي نشهد فيها تحركات بحرية وجوية لتلك القدرات الاستراتيجية للدول المذكورة. كما أنها ليست المرة الأولى التي نشهد فيها زحمة مناورات عسكرية. دائماً ما تحمل رسائل غير باردة. وفي مناطق وبحار المواجهة التقليدية في البلطيق أو البحر الأسود. وامتداداً إلى البحر المتوسط المرتبط بالبحر الأسود بشكل وثيق.
أو في المحيطين الهندي والهادئ، وامتداداً إلى بحر الصين الجنوبي. ولكن أن نشهد حراكاً حساساً لتلك القدرات، وأن يتزامن في الوقت نفسه في مثلث بحار المواجهة الاستراتيجية (البلطيق – الأسود – الصين الجنوبي)، وبمستوى قدرات الاشتباك والمواجهة نفسها، فإنه أمر لافت ويستدعي الوقوف عليه.
في بحر البلطيق
بحسب مجلة “ناشيونال إنتريست”، “يشكّل بحر البلطيق مكاناً مزدحماً، حيث تحيط بمساحته التي تقدر بحوالى 145 ألف ميل من البحر المشترك كلّ من روسيا وفنلندا والسويد، إضافةً إلى دول البلطيق الثلاث، بولندا وألمانيا والدنمارك، الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، الأمر الذي من الممكن أن يزيد توتر العلاقات”. وقد اعتبرت المجلة المذكورة، وبعد قيام سرب قاذفات ومقاتلات روسية بإرسال إنذار إلى الناتو، على خلفية قيام الكثير من دول الحلف المذكور بإجراء طلعات جوية مكثفة عبر المجال الجوي الدولي في وسط بحر البلطيق، وبشكل متكرر، أنَّ الموضوع يوحي بمسار غير تقليدي.
هذا المسار غير التّقليدي يمكن استنتاجه بسبب الإكثار من إجراء عمليات “اختبار لاستجابة الأطراف الأخرى” ضمن قاذفات دول الناتو، وبسبب إشراك الدول المعنية لأحدث قاذفاتها الاستراتيجية، وتحت أهداف محاولة معرفة ردّ فعل الطرف الآخر (الروسي)، وطريقة استجابته وتصرفه بمواجهة التحرك الجوي للناتو، بحيث يبدو الأمر وكأنه مناورة جوية تشترك فيها الأطراف المتخاصمة، تحضيراً لمواجهة جدّية، ما سبّب استنفاراً في البحر المذكور. وعلى الرغم من أن تلك الطلعات الجوية لدول الناتو تكون في المجال الجوي الدولي، يبقى في نظر الروس، لأي حراك جوي أو بحري في البلطيق، خصوصية عسكرية واستراتيجية حساسة لا يمكن التعامل معها بتساهل أو من دون حذر وترقب.
وبين أهمية فرض النفوذ في بحر البلطيق، وامتداداً إلى بحر الشمال وإلى مياه شمال المحيط الأطلسي، لكل من روسيا من جهة أو لدول الناتو مجتمعة أو لتلك التي تحضن سواحلها البحر المذكور من جهة أخرى، من الطبيعي أننا لن نشهد بتاتاً أي تراخٍ من قبل أيّ طرف من الأطراف المذكورة، لناحية الانتشار والجهوزية والاستنفار.
في بحر الصين الجنوبي
تتابع مجلَّة “ناشيونال إنترست” تقديرها لحساسيّة الوضع أيضاً في بحر الصين الجنوبي، إذ رأت “أن الأسطول الأميركي يستعد لهجوم مفاجئ يمكن أن تتعرض له وحداته البحرية، إذا قررت الصين ضم تايوان باستخدام القوة العسكرية، وذلك في إطار النزاع على منطقة بحر الصين الجنوبي”، والذي لا تترك الصين فرصة، إلا وتذكر الجميع، وخصوصاً الأميركيين، بأنها سوف تفرض سيادتها على ذلك البحر “المسمى باسمها تاريخياً”.
وفي تقرير عن النزاع في تلك المنطقة البحرية الأكثر حساسية في العالم حالياً، أشارت المجلة المذكورة إلى أن الصين تسعى لضم تايوان بوتيرة يمكن أن تكون أسرع من قدرة الولايات المتحدة الأميركية على الرد.
الرد الأميركي السريع جاء عبر قيام مجموعة القوة الضاربة التي تقودها حاملة الطائرات “يو إس إس رونالد ريغان”، بالإبحار في منطقة بحر الصين الجنوبي، ضمن جهود الأسطول الأميركي، لتأكيد عزم الولايات المتحدة وحلفائها على استمرار إبحار سفنهم بحرّية في المناطق التي يسمح القانون الدولي بالإبحار فيها، وليس كما تحاول أن تفرضه الصين كأمر واقع. وتهدف عمليات الإبحار الحر التي تنفذها السفن الحربية لأميركا وحلفائها أيضاً إلى التأكيد على عدم موافقة تلك الدول على إعلان الصين سيادتها على منطقة بحر الصين الجنوبي.
ومع إصرار الصين على إنهاء “انشقاق تايوان”، ومع إصرار الأميركيين وحلفائهم على إحباط محاولات الصين فرض سيادتها في بحر الصين الجنوبي وتايوان، لم يعد مستبعداً حدوث أية مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين في بحر الأخيرة الجنوبي.
في البحر الأسود
شهد البحر المذكور مؤخراً توتراً غير مسبوقٍ، يبدو أنه لن ينتهي قريباً أو لن ينتهي من دون مضاعفات، من غير الواضح كيف سيكون شكلها أو مستواها، وذلك بعد أن أعلنت وزارة الدفاع الروسية، الأربعاء الماضي، أن طائرة حربية وسفينة دوريات روسيتين أطلقتا طلقات تحذيرية باتجاه سفينة حربية بريطانية (المدمرة ديفندر)، كانت قد دخلت المياه الإقليمية الروسية في البحر الأسود (عملياً على مقربة من شبه جزيرة القرم).
وفي حين أشارت الوزارة الروسية في بيانها إلى أنَّ “المدمرة تلقَّت تحذيراً ولم تتجاوب معه”، ما حمل “زورق دوريات حدودية” وطائرة “سو-24 إم” على إطلاق “طلقات تحذيرية”، مضيفة أن السفينة البريطانية غادرت المياه الروسية بعد ذلك، نفت الجهات البريطانية الرواية الروسية من جهتها، واعتبرت أولاً أن مدمرتها لم تتعرض لأي إطلاق نار تحذيري، وثانياً أنها لم تخالف القانون الدولي، وأن إبحارها كان قانونياً في المياه الإقليمية لأوكرانيا، وليس لروسيا.
وفي الوقت الذي يكمن أساس الخلاف بين الناتو وروسيا على تحديد المياه الإقليمية للأخيرة، بعد أن استعادت شبه جزيرة القرم، رأت أن ذلك يترتب عليه توسيع مساحة مياهها الإقليمية في شمال غرب البحر الأسود، الأمر الذي لا تعترف به دول الناتو بتاتاً، إذ تعتبر أن تلك المياه تابعة للسيادة الأوكرانية.
وفي ظل إصرار كل طرف على رؤيته للسيادة على شبه جزيرة القرم، يبدو أن هذا الخلاف مرشّح للتطور، وأصبح من غير المستبعد أن تتدحرج الأمور نحو قيام موسكو بمناورة عسكرية، غير بعيدة عن تلك التي نتجت منها استعادة شبه جزيرة القرم.
مع هذا الغليان الدولي الثلاثي الأضلاع (بحر الصين الجنوبي – بحر البلطيق – البحر الأسود)، هل يكون تزامن هذا الاشتباك المرتفع الحساسية، وفي هذه المناطق الحيوية التي تعتبر الأكثر احتمالاً لاحتضان أية مواجهة استراتيجية مرتقبة بين الأطراف المذكورة (روسيا والصين والناتو)، بهدف رفع السقف وتوسيع مستوى الاشتباك ومكانه، لتفادي المواجهة وفتح كل أوراق الاشتباك علناً، أو بهدف اختيار كل طرف الثغرة الأضعف للطرف الآخر والانقضاض عليها واقتناصها للفوز وتحقيق الهيمنة وفرض النفوذ؟