توفيق صالح.. سبعة أفلام قبل أن يلفّه الصمت طائر العزلة (نديم جرجوره)

 

نديم جرجوره

إذاً، توفي توفيق صالح. الرجل الذي وجد في العزلة السينمائية ملاذاً لنفسه من كل شيء. السينمائيّ الذي قرّر الخروج من البلاتوهات والاستديوهات نهائياً قبل ثلاثة وثلاثين عاماً. الإنسان الرائع الذي ارتضى الصمت تعبيراً وبوحاً وانكفاء. توفي توفيق صالح. النبأ بحدّ ذاته مُثقل بألف سؤال وسؤال. لكن السؤال الذي لم يتسنّ لي طرحه عليه أبداً، أو بالأحرى لم يتسنّ لي الحصول على جواب «واضح وأكيد وثابت ونهائي» عليه أبداً كامنٌ في المعنى المخفيّ في قرار الاعتزال. كامنٌ في المغزى المبطّن في أعماق قرار أخذه إلى الهامش، وجعله ينظر إلى المتن بعين هادئة، وبسكوت عظيم. الأسئلة كثيرة، لكن نبأ الرحيل بحدّ ذاته كفيلٌ بالتوقّف قليلاً عند اللحظة نفسها: لحظة سكونه في الموت. لحظة التقوقع في العزلة. لحظة ولوج الصمت. لحظة الانحياز إلى التدريس بديلاً من الاشتغال. لحظة التأمّل. لحظة الانبثاق من داخل عدسة الكاميرا إلى خارج غرف المونتاج.
صباح أمس الأحد، تردّد الخبر عبر شبكة التواصل الاجتماعي. التأكّد من الخبر دونه رغبة دفينة وخفرة في أن تكون هذه الشبكة، على عهدها، ميّالة إلى اختراع أنباء ليست صحيحة. لكن مضمون الخبر صحيح. الوفاة مؤكّدة. الوفاة ناتجةٌ من شيخوخة ألمّت بالرجل، ومن قعود طويل خارج الكادر والصورة. الوفاة نابعةٌ من خلل صحي، متأثّر (الخلل) بتمدّد العمر إلى ما بعد الثمانين عاماً. لكن أخباراً عدة ردّدت، خلال أعوام ماضية، أن الرجل المنكفئ على ذاته وجد في خلوته الطويلة راحة جعلته يعيش كسلاً إبداعياً بدا لي أجمل من كل كسل آخر. التدريس في «المعهد العالي للسينما» في القاهرة محاولة للتأمّل في مسار تاريخي تعيشه صناعة الصورة السينمائية في مصر، من خلال متابعة أحوال طلاب يتخرّج من بينهم من يُصبح، ذات لحظة، سينمائياً من طراز رفيع. محاولة لتبيان مآل تلك الصناعة وأحوالها، عبر المُشاركة الفعلية في صناعة من يُفترض بهم أن ينهضوا بها، وأن يأخذوها إلى آفاق أجدّ وأجمل، وأن يجعلوها حكاية تتجدّد كل يوم، بتجدّد إبداعهم.
تُرى، ما الذي جعل توفيق صالح يصمت سينمائياً ثلاثة وثلاثين عاماً؟ هل لهذا الصمت علاقة بالتجربة «المريرة» التي خاضها بتصويره «الأيام الطويلة» (1980)، الفيلم الذي دفعه إلى الغربة عن السينما، بعد خمسة وعشرين عاماً فقط على بدايته الإخراجية، المتمثّلة بـ«درب المهابيل» (1955)؟ نقّاد عديدون أجمعوا على أن «الأيام الطويلة» شكّل منعطفاً سلبياً في المسار الإخراجي لصالح. قالوا إنه «أسوأ» أفلامه على الإطلاق. ردّدوا أن المخرج أنجزه في «ظروف استثنائية»، يوم عمل في بغداد مدرّساً للسينما بدءاً من العام 1973. عندما التقيته في دمشق، ذات دورة من دورات مهرجانها السينمائي، سألته عن الفيلم، وعن المشاكل العديدة التي واجهها أثناء تصويره وبعده، وعن مدى حقيقة ما قيل حول تململ صدام حسين من الفيلم، لأنه لم يعثر فيه على التمجيد المطلوب، والتقديس المرتجى. عندها، اكتشفت أن لتوفيق صالح تلك الابتسامة، الأقرب إلى الضحكة الخفيفة، التي يُمكن وصفها بأنها طفولية جميلة. ابتسم أو ضحك. لم أعد أذكر تماماً. لكنه انصرف عن الجواب بابتسامته تلك، أو بضحكته تلك، كأن ما حصل قد حصل، وما حصل قد انتهى، والماضي مضى، وها نحن اليوم هنا الآن، وكفى. لا أعرف سبباً واحداً منعني من إجراء حوار معه حينها. أهي القناعة بأن المقبل من الأيام كفيلٌ بإتاحة فرص عديدة لحوار أو أكثر؟ أهو التأكّد الضمني بأن حواراً طويلاً معه لا يستقيم إلاّ في القاهرة، في أحد الأمكنة القليلة التي يُفضّلها؟ أهي المتعة الذاتية بالجلوس إليه، صحبة الصديقة ريما المسمار، لدردشة تشعّبت كأنها تريد أن تكون حواراً عميقاً مع سينمائي موصوف بأنه أحد ألمع مخرجي الواقعية السينمائية المصرية؟
من الإسكندرية، التي وُلد فيها يوم السابع والعشرين من تشرين الأول 1926، إلى باريس ودراسة السينما والعمل مساعد مخرج في أفلام فرنسية متنوّعة، بدا واضحاً أن توفيق صالح سيعود إلى القاهرة محمّلاً بدراسة وخبرة ميدانية جديرتين بالانتباه، لشدّة تأثيراتهما الإيجابية على من سيتحوّل، منذ منتصف الخمسينيات الفائتة، إلى أحد سينمائيي الواقعية المصرية، قبل أن ينخرط في دائرة «الحرافيش» التي صنعها نجيب محفوظ (1911 ـ 2006). الروائي الفائز بجائزة نوبل للآداب في العام 1988، سيكون مدخله الأدبي إلى السينما. محفوظ، الناشط السينمائي حينها، أعانه على اختراق عالم الصورة بطريقة مجدية، متعاوناً معه في أول أفلامه «درب المهابيل». محفوظ، الروائي المتمكّن من رسم الملامح الشعبية للحارات والفضاءات الإنسانية المصرية، سيكون طريقه إلى عوالم وتفاصيل، قبل أن يكتشف صالح في ذاته تلك القدرة الإبداعية على توظيف اللغة السينمائية في مقاربة الحكايات.
السياسة؟ حاضرة في أفلامه. الحيّز الشعبي من منظور إنساني؟ حاضرٌ في ثقافته واشتغالاته. النكسة والقضية الفلسطينية؟ وجدتا في عالمه الإخراجي مكاناً بارزاً. لكن فلسطين لم تكن القضية بل الناس. «المخدوعون» (1972)، الذي اقتبسه صالح من رواية «رجال في الشمس» (1963) للفلسطيني غسان كنفاني (1936 ـ 1972)، التقط نبض القضية من خلال أناس من لحم ودم، عانوا مرارة التهجير، وعاشوا أقسى الاختبارات، وماتوا احتراقاً في صهريج كاد يوصلهم إلى محطّة جديدة في حياة مريرة. لكن، قبل «المخدوعون»، أنجز توفيق صالح أفلاماً اتّسمت بتلك الشفافية القاسية في التوغّل داخل الذات، وفي أعماق البيئة الاجتماعية، وفي عبقرية الاقتباس الأدبي. عمله مع نجيب محفوظ لم يمنعه من إيجاد المعادل السينمائي لروايات أخرى. توفيق الحكيم (1898 ـ 1987)، هو أحد الروائيين الذين اختارهم صالح لعمل سينمائي، باقتباسه «يوميات نائب في الأرياف» (1937) في العام 1968. من عوالم التجسّس والاستخبارات والصراعات الأمنية والسياسية، وجد السينمائي في صالح مرسي (1929 ـ 1996) ما يعينه على منح النصّ الروائي أبعاده البصرية، فإذا بـ«السيّد البلطي» تُصبح فيلماً في العام 1967. كما رأى في «المتمرّدون» (1966)، عن نصّ للكاتب الصحافي صلاح حافظ (1938 ـ 2008)، مادة حيّة لتبيان وقائع العيش السياسي في ظلّ النظام الحاكم أيام جمال عبد الناصر.
مناكفاته في المسألتين المصرية والفلسطينية معروفة. الترميز والمواربة في «المتمرّدون» (عن الحالة السياسية في مصر الناصرية) مثلاً لم يُخفيا كلّياً تلك المناكفة التي أرادها توفيق صالح بوحاً ذاتياً عن واقع جماعي. «يوميات نائب في الأرياف» كاد يُعرض ممزّقاً ومُشوّهاً، لولا تدخّل جمال عبد الناصر نفسه مانعاً أي حذف: «أحسستُ بالغصّة تزداد مرارة في حلقي. شعرتُ بالاغتراب والنفي وأنا في بلدي، فقرّرت الرحيل». يومها، حدثت «النكسة». يومها، ازدادت المطاردة ضده. يومها، كان البوح خطراً، والاعتراف بالواقع جريمة. يومها، حمل توفيق صالح أمتعته وذهب إلى بغداد، فإذا بـ«الأيام الطويلة»، أو بالأحرى بتلك الحكاية التي أحاطت بالفيلم، تدفعه إلى «رحيل» جديد صوب العزلة والاعتكاف والاعتزال.
رحل توفيق صالح. أميل إلى الاعتقاد أن رحيله يُمكن أن يكون دعوة إلى إعادة قراءة تاريخ كامل من سينما وحياة والتزامات أخلاقية وحساسية إنسانية. أميل إلى الاعتقاد أن رحيله مدخل إلى إعادة تشكيل تلك الحقبة، وإلى محاولة التقاط الدفق الإبداعي الممتدّ على مساحة الزمن، بل على مساحة السينما.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى