ثقافة الأسئلة وأسئلة الثقافة

أصلحت المذيعة المتشاقرة من شعرها وهندامه، (شيّكت) على مكياجها، أمسكت بالميكروفون بين أصابعها القططيّة المحلاّة بالخواتم الغريبة، قرّبته من فم ضيفها كقرن موز شهي ثم التفتت إلى فريق التصوير وقالت:جاهزين شباب، لنبدأ تسجيل الحوار مع الأستاذ.

ـ قدّم نفسك أستاذ، اسمك ومهنتك ونبذة صغيرة عن حياتك؟..

انتهى الحوار هنا عند هذا السّؤال العظيم الذي لم يجد له جواباً في حلق الضيف غير صرخة غضب مدوّية سقط على إثرها الميكروفون من بين أنامل حاملته وكاد شعرها الأشقر أن يعود إلى لونه السّابق ثم ردّت على سؤالها بسؤال استنكاري: (ليش شايف حالك!؟ أنا عملت حوارات مع كبار المطربين والنجوم وكانوا لطفاء معي..).

لم تكن هذه الحادثة من نسج خيالي وإنّما حقيقة شهدتها في حوار عمر هذه المذيعة مع الفنّان المبدع فاتح المدرّس.

اسمحي لي بسؤال أيتها المذيعة الحسناء: كيف امتلكت الجرأة على طرح هذا السؤال على قامة إبداعيّة يعرفها الغرب قبل الشرق، هل أنّ فاتح المدرّس مواطن عابر في سوق مكتظ تسألينه عن غلاء الأسعار أو أغنيته المفضّلة في ريبورتاج عابر!؟ لماذا لا تقتطعين من وقت زينتك بعض الدقائق لمعرفة سيرة هذا الفنّان وأعماله قبل أن توقفيه أمام الكاميرا كماثل أمام
التحقيق ؟!

ربّما تردّين باستهتار: كل الذين يشتغلون بالفن والثقافة مصابون بالنرجسيّة وتضخّم الذات.

اعلمي سيدتي أنّ الرأس يكبر حين يمعن الآخر في تقزيمه أو تهميشه أو تهشيمه.

قديما قالت العرب: السؤال أنثى والجواب ذكر. إنّ هيبة الأقفال تعرف من حجم مفاتيحها على كل حال رغم أنّ غالبيّة الأبواب في عصرنا صارت الكترونيّة رقميّة وبدأت تفقد هويتها (الجنسيّة) ورغم أنّ السؤال والجواب هما على صيغة المؤنث في أغلب اللغات اللاتينيّة.

مهما كان في هذه المقولة من وشايات تحيلك إلى التباسات كثيرة في المقاربة ونمط التفكير والمرجعيات إلاّ أنّها تحمل حنكة فطريّة مدهشة فالمسؤول يكبر أو يصغر بالسائل لغة ووظيفة.

لو يمثل أعتى المفكّرين بين يدي محاور ذي أسئلة تافهة سيجد نفسه بالتأكيد مملاّ وسمجاً كذلك غالبا ما نلحظ – في الشاشات الأجنبيّة ـ محاورين ومذيعين اكتسبوا نجوميّة وشهرة مهما كان مستوى ضيوفهم لأنّ أسئلتهم تحمل تلك الغواية المؤنّثة والمشاكسة المحبّبة دون إسفاف أو تتفيه.

نكاد نجزم وللأسف أنّ الثقافة العربيّة في تاريخها وموروثها هي ثقافة أجوبة وليست ثقافة أسئلة. إننا غالباً ما نركن إلى طمأنينة اليقين ونخشى على رؤوسنا من حمّى البحث والشكّ حتّى صارت أرضنا – أو تكاد ـ يباباً هجرتها محاريث الأجوبة التي تخصب أسئلة تتناسل.

تقع تفّاحة على نيوتن فيسأل : لماذا لم تقع إلى الفوق؟ تسقط تفّاحة على أحدنا فيأكلها ثم ينام.

ثمّة (خيميائيون)عباقرة يحوّلون معادن الأسئلة الرخيصة إلى أجوبة لا تصدأ في أذهاننا كبرناردشو الذي سألته عارضة حسناء: لماذا لا نتزوّج فننجب مولودا في جمالي وذكائك؟ ردّ الشاعر الفيلسوف وهو يقطّب عن جبينه بكلّ ما أوتي من برودة الإيرلنديين: ربّما جاء المولود يحمل ذكاءك أنت وجمالي أنا؟!

ماذا لو كتم الفنّان غيظه وردّ على سؤال المذيعة الشقراء حول اسمه ومهنته وسيرته بأجوبة مزيّفة كأن يقول لها :(اسمي أبو عبدو تحسين لديّ نوفوتيه و أحب الرسم على الموبيليا وفتّة المكدوس وأغاني شعبولاّ وأكره النحيفات والجلد في الفرّوج و..التبوّل عكس الريح.وأطلب فقرة من مسرحيّة سمير غانم… ) ربّما يبثّ هذا اللقاء في غفلة من الزمن وفريق الإعداد وهيئة الرقابة.

ساعتها من يتحمّل المسؤوليّة؟ جمال المذيعة أم ابداع فاتح المدرّس؟

هذا هو السؤال على الطريقة الشكسبيريّة ولقد وجدتني في نفس الموقف مع مذيع لهلوب يسألني على هواه: أنت مؤلّف ومخرج المسرحيّة؟ أجبت :لا..أخي الكبير.

والله لقد كان لنا أجداد من الأعراب فطنون وحاضرو البديهة كالذي سأله أحد المتطفّلين :

ـ كم عمرك؟
ـ الأعمار بيد الله
ـ لا لا. أقصد كم سنّك؟
ـ في فمي اثنان وثلاثون سنّا
ـ ما سنّك؟
ـ سنّي من عضم
ـ أقصد..عمرك..؟
ـ الأعمار لا تقصد…كان عليك أيّها المغفّل أن تقول :كم مضى من عمرك؟).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى