ثقافة الثورة‏..‏ وسياسة الدولة‏! (محمود قرنى)

محمود قرنى


مات مثقف الثورة‏,‏ أقصد المثقف الحالم‏,‏ الذي كان يعد نفسه ليكون ممثلا أعلي للحقيقة‏.‏ لم يكن لدي الجموع بدائل كبيرة‏.‏ استمعوا لآلاف الأصوات التي ضمت بين صفوفها قلة من الساسة المحترفين وأكثرية من الدجالين والحواة‏.‏
لم يكن صوت المثقف أكثر من ترجيع بعيد لأصوات أعلي وسط صفير الميادين. لم يكن الأمر يدعو للتفاؤل, ليس لأن المثقف التبريري سيقلع عن وظيفته, وليس لأن النظام السياسي سيقلع عن محاولات التدجين وشراء الذمم, لكن لأن المجال العام المزكوم بالفساد طيلة أربعين سنة أو يزيد, لم يعد له من ظهير يسانده, لأن الآلة الجهنمية التي كانت تنفخ في روحه لم تعد صالحة لأداء نفس أدوارها القديمة.
ومع ذلك فالآلة نفسها تحاول بعث الروح في جثامين تعفنت في مقاعدها. من هنا سيستمر الكثير من سوء الفهم مصاحبا لأي حراك يجهل أهدافه. فالجموع التي دفعت ثمنا باهظا لثورتين مازالت تحلم بنخبة أقل ثقة في نفسها, أقصد أقل خيلاء واستعراضا, فما لم تفهمه النخبة أن الثورة كسرت يقين الأشياء والأسماء. ومن أسف أن النظام الشمولي الذي سقط في يناير والنظام الكهنوتي الذي سقط في يونيو اعتمدا معا ثقافة الوثوقية. الأول اعتبرها تعويذة الاستقرار, والثاني اعتبرها تعويذة لدخول الجنة.
فالدولة الشمولية تمسكت بوحدة الثقافة ودولة الإخوان اعتصمت بوحدة الدين. أما وحدة الثقافة فأنتجت عقلا يخلو من التضاريس, وهو عقل تلقيني بامتياز. ووحدة الدين أنتجت عقلا يقدس المعرفة النقلية في مقابل احتقار المعرفة العقلية, من ثم فإن علاقتها بالزمن ظلت علاقة نقائض.. فهي تعتمد علي تثبيت القيم الإنسانية باعتبارها خارج الصراع التاريخي. وفي الإجمال فإن فكرة كلا الفريقين تقوم علي العصمة وامتلاك الحقيقة. الأمر الذي يجرنا إلي سؤال أكثر تعقيدا عن مفهوم كليهما للآخر, وعن قدرته علي إعادة صياغة هذه الوحدة لمصلحة تعظيم قوة المشتركات المجتمعية والقومية علي السواء, وإلا فنحن نحتاج إلي تفسيرات عاجلة لأسباب تغييب القوة الثقافية القبطية التي كانت شريكا أساسيا في صناعة العقل القومي منذ أكثر من قرنين من الزمان. وعلينا أن نتذكر أن مسيحيي الشرق هم من وضعوا اللبنات الأولي, بل الأساسية, لما عرف فيما بعد بالفكر القومي.
إن الذين يحدثوننا الآن عن وحدة الدين من ناحية ووحدة الثقافة من ناحية أخري,( أخص بالذكر دعاة المصالحة مع الإخوان, ودعاة الإبقاء علي رجالات مبارك وفاروق حسني في وزارة الثقافة) لا يدركون قطعا أن هذه الوحدة تنطوي في داخلها علي نية لتقسيم المعرفة, حسب الرتبة الاجتماعية من ناحية وحسب الرتبة الدينية من ناحية أخري, هذا عوضا عن منح القوة المجتمعية القادمة بعد الثورة الحق في الاختيار.
أمر التغيير ليس يسيرا بالتأكيد, لاسيما إذا كانت الوزارة المعنية بالنهوض بالشأن الثقافي عاطلة عن الفهم, ومتراجعة مئات الفراسخ عن حاجات الملايين ممن ينشدون المعرفة, ليؤلفوا منها صوتا لمن لا صوت له. فالتناقض البادي بين المضمون الثوري وبين القدرة علي التعبير عنه, عائدة إلي أن أدوات الفعل وقعت في الأيدي الخطأ, ولن تتمكن الوزارة من النهوض بالفعل الثوري بينما تتوزع قدراتها علي إرضاء فصيلين. أولهما: قيادات تعاونت مع نظام مبارك والإخوان ودافعت عن شعاراتهما, دون أن تري أية غضاضة في حمل شعارات الثلاثين من يونيو أيضا, بعد أن حملت بنفس الأيدي, الشعارات النقيضة. وقد عادت قيادات هذا الفصيل سالمة, إلي نفس مواقعها القديمة في الوزارة. وثاني هذه الفصائل: مجموعات محمومة بالدعوة لتفكيك وزارة الثقافة وغلق أبوابها واقتصار دورها علي دعم المؤسسات الأهلية والناشرين من أصحاب المصلحة. وقد طالعت عدة أوراق لإحدي المؤسسات الأهلية الممولة من عدة هيئات دولية معروفة, وعلي رأسها مؤسسة فورد, تتحدث عن كيفية وأدوات هذا التفكيك, وعلي رأس ذلك طبعا استبعاد ما يقرب من ربع موظفي الوزارة وإخضاعهم لنظام المعاش المبكر وبيع قطاع الإنتاج الثقافي. ورغم ما يبدو من وجاهة في بعض هذا الطرح من الناحية النظرية, لاسيما فيما يتعلق بكسر شوكة البيروقراطية, فلابد من التنبيه إلي عشرات المزالق. فالمؤسسات الأهلية التي تعمل بالثقافة والتي يتشدق هؤلاء بدورها لا تغطي أكثر من1% من احتياجات المواطن المصري علي مستوي الجمهورية, كما أن دور النشر التي تسعي لتدمير أو بيع الهيئات الكبري لا تغطي أكثر من5% من الاحتياجات نفسها, فضلا عن ضرورة إخضاع الفكرة برمتها للنقاش العام, حتي لا تكون الثقافة مدخلا لتفكيك العقل المصري وليس الوزارة فحسب. وأتصور أن ثمة خطوات حتمية لابد من الانتباه لها, إذا أرادت الثورة أن تكون موجها أساسيا للعقل العام:
أولا: ضرورة التواصل مع الكتل الثقافية الفاعلة في العالم, لأن الثقافة المصرية قامت علي التنوع والتعدد والتلاقح وهو ما حفظ لها الكثير من حيويتها.
ثانيا: كسر طوطمية نقاء الثقافة المحلية ووحدتها, فليس ثمة ثقافة تقوم علي تفريغ محيطها من غيرها, فالثقافة لا تقوم علي الإقصاء.
ثالثا: تمكين الكفاءات الطليعية المبدعة في جميع المجالات, ودعمها للانتقال من مرحلة التأثير والتأثر إلي مرحلة الخلق والابتكار.
رابعا: الدعوة لإطلاق مشروع حضاري متكامل الأركان تلتف حوله القوة المجتمعية الصاعدة, يقوم علي توسيع مفهوم الثقافة باعتباره لا يمثل فكرة الدولة عن نفسها, بل يمثل مجمل المنتج الروحي للأمة, ما يعني توسيع رقعة المساهمين في صنعها.
خامسا: إقصاء مجموعات المصالح أو الجيتو الذي يتعامل مع الثقافة باعتبارها وجودا استعراضيا وكرنفاليا يصب في مفهوم الفرجة وحصد المكاسب في النهاية, ولن يحدث ذلك سوي بسيادة مفهوم جذري وجامع للثقافة الوطنية.
ولتجسيد الفوارق الجوهرية بين ثقافة الثورة وثقافة الدولة أهمية أكيدة, فالثقافة كما ننشدها لم تعد في عصمة عقل فقد وظائفه الحيوية, سواء كان ذلك باسم الوطنية أو باسم الدين, الثقافة هي امتلاك الهيئة الاجتماعية لقدرتها علي التغيير ومن ثم صناعة المستقبل. وهنا تستحيل الأمة كلها مضمونا ثقافيا; فيجب ألا تظل الثقافة رهينة لنخبة تخص نفسها بصفات فوق البشر. فهل وزارة الثقافة قادرة علي الفهم؟.. أتمني ذلك.

صحيفة الاهرام المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى