ثورة في مهب الريح! (ميشيل كيلو)

 

ميشيل كيلو

لم يعد هناك من وصف مؤسف ينطبق اليوم على الثورة السورية غير الإقرار بإنها غدت «ثورة في مهب الريح»، او بالاحرى، في مهب رياح عاتية تعصف اليوم بها من كل حدب وصوب، اشدها خطرا على الإطلاق تلك التي تهب عليها من فوق: من جهات وضعت يدها على قيادتها قبل نيف وعامين وتلعب فيها اليوم ايضا ادوارا جد مهمة اذا لم اقل حاسمة، قادتها إلى حافة الهاوية.
لا اعتقد انه يوجد اليوم من لا يرى الرياح وهي تعصف بالثورة، والجهات التي أسهمت في إيصالها إلى حيث هي الآن، شبه مكشوفة أمام منعطف مصيري لا شك في أنه سيصير قاتلا، إن هي لم تبادر إلى اصلاح احوالها، أو إذا لم تحدث معجزة دولية ما، وإلا غدا إخراجها من مأزقها الحالي ضربا من المحال وأصيب من سيأتون بعدنا بالدهشة بسبب ما وقع قادتها فيه من أخطاء، وما ابدوه من عجز عن إصلاحها، على الرغم من تعالي أصوات طالبتهم في الماضي وتطالبهم اليوم، تضم عسكريين من مختلف الرتب والمواقع، وسياسيين من شتى التيارات، فضلا عن ملايين المواطنات والمواطنين، ممن أصيبوا باليأس لما آلت إليه ثورتهم وحالهم، بعد أن وقع ما لم يكن في حسبانهم، فاقتلعوا من جذورهم، وتركوا لمصير بائس مكن إرادات دولية وعربية وداخلية من التلاعب بلقمة عيشهم وحقهم في الحياة، إضافة إلى تحويلهم من لاجئين الى مشردين تقطعت بهم السبل، وصاروا عرضة لمظالم شتى لا تقل فظاعة عن تلك التي كان النظام ينزلها بهم، كأنما كتب على شعب سوريا ان يتعرض للموت بأكثر الطرق وحشية وإذلالا، لمجرد أنه ارتكب جريمة المطالبة بما توهم انه حقه (الحرية)، وسبق لشعوب كثيرة أن نالته دون عقاب.
والغريب ان الثورة، التي بلغت هذا المأزق، تمتلك اليوم مئات آلاف المقاومين والمناضلين، الذين يضحون بأرواحهم في سبيل نصرتها وتحقيق أهدافها. ان هؤلاء الذين يخوضون معركة الحـرية يرون بأم أعينهم عجزهم عن تحرير ثورتهــم من أخطائهــا، ومع ذلك يريدون ان يظلوا حملتها ووقودها، وأن لا يتخلوا عن حقهم في الاستشهاد من أجل قيمها ومقاصدها، بل انهم يمعنـون في الالتــصاق بها والإصرار على انتصارها، لانهم لا يرون انفسهم إلا بدلالتها، على العكس ممن يتولون قيادتها ويرونها بدلالة ذواتهم وأحزابهم ومصالحهم، ويسهمون، لهذا السبب بالذات، في دفعها نحو الهاوية، غير آبهين بمصيرها، ما دامت خياراتهم السياسية ورغباتهم الحزبية والأيديولوجية، تتحقق على حساب اهدافها وخياراتها.
لو اردنا أن نضرب مثالا على انحطاط العقل الذي يقود الثورة، لوجدناه في ردود أفعال تيارت معارضة مهمة على سقوط القصير. بداية، نحن في حرب، وفي الحرب يتعرض المتقاتلون إلى الربح والخسارة، ينتصرون في معارك وينهزمون في غيرها. لكن العقل المنحط لم يحسب حسابا لهذه الواقعة البســيطة، بل ركـبته فكرة سخيفة ترى أن الثورة تنتقل من انتصار إلى آخر، لمجرد انها ثورة، وانها تفعل ذلك دوما، حتى إذا لم تتوفر لها شروط الانتصار ولم يكن لمقاتليها سلاح وطعام وتنظيم عسكري وقيــادة خبــيرة. وكــان قد سبق أن تحادثت مع أحــد هــؤلاء «الانتصــاريين»، فــقال لي: نحن حذفنا كلمتي الهزيمة والانسحاب من قاموس الثورة .عندئذ، هنأته بالنــجاة من صحـبة جبناء متخاذلــين لطالما خاضــوا معارك هزمــوا في بعضها وانسحبوا أمام اعدائهــم في بعضها الآخر، حين كانت الحرب تفرض عليهم الانسحاب وكانوا يرون في الهزيمة موقعة عسكرية، ويعتقدون أن من واجبهم اخذها بالحسبان لينجحوا في تحاشيها، ويعتبرون الانسحاب ضرورة عسكرية. عندما ابدى بطل الكلام المغوار سروره لأقوالي، ذكرت له أنه كان بين هؤلاء الجبناء خالد ابن الوليد، والاسكندر الأكبر، وهانيبعل، ونابليون، وجوكوف، وكوتوزوف، ورومل… الخ .
لو كان عقل هؤلاء عقلانيا، لقالوا إن موازين القوى ستحتم هزيمة المقاومين في القصير، إذا لم تتوفر لهم قوة معدة مسبقا وتكفي لدحر جيش رسمي وقوات تابعة لـ«حزب الله». من دون توفـر هــذه القــوة، لا يجــوز قياس المعركة بتحقيق انتصار مستحيل، بل بقدرة المقاومة على الصمــود واستنــزاف العــدو، وقــدرة القيادة على إمدادهم بمقومات القتــال الضــرورية لذلك. هذه الحقائق البسيطة لم يوجد من يحترمها، لذلك قرأنا كلاما يسخر من ما يسميه» الانتصار في توسعة الائتلاف» وما شابه من قضايا خارجة تماما عن موضوع القصير، دون أن نفهم العلاقة بين التوسعة والهزيمة.
والآن، إذا كان العقل الفاسد يرفض رؤية المهم والرئيس والحقيقي، فإني ابشره بقصيرات جديدة قد لا يكون وقوعها بعيدا، ما دامت اسباب سقوطها تفعل فعلها في كل مكان من سوريا، ومن المحتم أن تفضي إلى النتائج عينها، التي رأيناها في المدينة الشهيدة، ما لم تتم مبادرة فورية الى تصحيحها من خلال سياسات صائبة.
من علامات الهزيمة انكار وقوعها، ورؤيتها بأعين لا تميز بين الاشياء، وقطع الصلات بين اسبابها ونتائجها، وتحليل الأحداث بأساليب تعتمد النق والشكوى وازدراء الوقائع، وتغليب الانفعالات الشعورية على الرؤية الصاحية، وتنكر القيادات لمسؤوليتها عنها أو إلقاء المسؤولية على الآخرين: أكانوا أعداء خارجيين أم حلفاء ومساعدين واتباعا… الخ .هذه العلامات موجودة اليوم بوفرة في رؤى المعارضات السورية، وتعد دليلا دامغا على حاجتها إلى مبارحة وضع دفعها النظام إليه عن عمد، لتصل إلى موقع تصير قابلة للهزيمة فيه، سواء في مكان محدد وصغير كالقصير أم في عموم سوريا. وللعلم، فإن الثورة تتجه بهذا القدر او ذاك من السرعة نحو هذا الموقع، كأن بعض قياداتها قرر نحرها، وإلا كيف نفسر هذا القبول العام بالحال السيئة الراهنة، التي لا يوجد سوري واحد يشك في أنها انحدارية وأن نتائجها ستكون انتحارية؟ وما الذي يبرر الموقف السلبي حيالها، مع ان الجميع يرون اتجاه الثورة نحو استعصاء مرعب يتحول تدريجيا إلى مأزق قاتل، يستطيع كل ذي عينين ان يرى بوضوح أنها لم تعد على الهاوية، بل شرعت تنزلق الى جوفها خلال الأشهر القليلة الماضية، بعد ان تحولت من السلمية إلى العسكرة، وتعايشت لفترة مع اخطاء سياسية نجح تصاعد المقاومة وحجم التضحيات الشعبية الهائل في امتصاصها وحجب نتائجها عن الأنظار، وعندما بدأ هذان بالتراجع تحت الضغط العسكري والسياسي السلطوي / الإقليمي / الدولي، بانت فداحة الأخطاء ودخلنا في آلية تفاعلية حدها الأول سياسات متعثرة وفاشلة، وحدها الثاني عسكرة وصلت إلى نهاية ما تستطيع اعطاءه بقوة تنظيماتها وخططها. وها نحن نواجه مأزقا حرجا يبدو وكـأن أحدا لا يمتلك ارادة الخروج منه، مع أننا نقر جميعا بوجوده ونعرف كيف نستطيع مبارحته ووضع حد له. أليس من علامات هزيمة الثورة أن تعرف أخطاءها وتعجز في الوقت نفسه عن التخلص منها؟
ما هو سبب موقفنا الغريب العجيب هذا؟ اعتقد أنه بالدرجة الأولى استسلامنا للخارج، والتخبط في اولوياتنا التي لم تعد تتمحور على الداخل ولا تعرف كيف تتفاعل معه بطرق ناجعة تعكـس قدرتنا على تعبئة قواه ضد النظام بدل بعثرتها تحــت وطـأة خلافات تمعن في تشتيتها، رغم ان مد شعبنا الثوري تصاعد طيلة عام ونصف العام إلى ذرى لم يبلغها أي شعب آخر ثائر، ووزن الخارج المقرر رغم تعارض اهدافه مع هدف الثورة الديموقراطي، واستحالة أن يقود عشرون تنظيما وجهازا متناقضين متصارعين ثورة تخوضها آلاف الكتائب والألوية المتنافسة المتصارعة في أحيان كثيرة، واخيرا الافتقار إلى مرجعية تضبط الفوضى التنظيمية والقيادية والميدانية، هل نستغرب بعد هذا أن تكون ثورة سوريا في مهب رياح تعصف بها، تجعل إنقاذها إنقاذا لكل فرد منا، ولدولتنا ومجتمعنا، وتأجيله خيانة لشعبنا، الذي بذل جهدا يفوق طاقة البشر وتحمل آلاما لا يطيقها قوم، ليصحح أخطاء قياداته، التي يجب أن تبادر إلى إخراجه من محنته.
وصلت الثورة السورية إلى نقطة مفصلية وخطيرة، بفضل سياسات بدلت طابعها كثورة من أجل حرية شعب سوريا الواحد. ثمة سؤال يطرحه هذا الخطر: هل يمكن إنقاذ ثورة بالسياسات والقيادات التي تفرض عليها الفشل؟

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى