«ثورة» في مهرجان القاهرة تتحدى أعداء الفنون

«هي ثورة»، عبارة تحفر عميقاً في الدورة الـ36 من مهرجان القاهرة السينمائي. ثورة على التدهور القديم، وعلى سنوات التخبط والضياع، وما خلّفته من تشوّهات في جسد المهرجان الأعرق في المنطقة، بعدما انصرف عنه أهل السينما في مصر، وعجز عن مقارعة مهرجانات خليجية وليدة بموازنات كبيرة.

«هي ثورة» أطاحت عبارة «هي فوضى» التي طبعت السنوات الماضية (في استعارة من عنوان آخر فيلم للراحل يوسف شاهين)، وجعلت صوت الحسرة يعلو فوق أي صوت آخر، فأسقطت المهرجان بالضربة القاضية، هو الذي عرف عصره الذهبي أيام سعد الدين وهبة حين جعله مؤسسه الحقيقي هذا، قبلة لأهل الفن السابع ومكّنه من احتلال مكانة مميزة بين أبرز المهرجانات الدولية…

«هي حسرة» أيضاً، على مدينة بدا انها تراجعت عن لعب دورها في احتضان الفنون في عالم عربي كان بأمسّ الحاجة إليها، فأفسحت مكانها لمدن عجزت عن التقاط سحر «أم الدنيا» وتراخت في نسج خيوط علاقات متينة بالفنون.

لكنّ القاهرة بعد «ثورتي يناير ويونيو» ليست هي نفسها قبلها. ومهرجان القاهرة بعد «ثورتي يناير ويونيو» ليس هو نفسه قبله.

القاهرة الآن تحارب أصحاب الأفكار المتحجرة وأعداء الفنون، ومهرجانها يتحدى كل من شارك في اغتياله ليُعيد الى المدينة دورها التاريخي. دور لا يليق إلا بها. فـ «الرجل المريض» يبدو انه استعاد عافيته، والدورة الجديدة تحاول ان تضعه على السكة الصحيحة لتقول للعالم هذا هو الوجه الحضاري للقاهرة يعود بكل زهوه وتألقه… أو هذا على الأقل ما يطمح إليه طاقم المهرجان ورئيسه الناقد السينمائي سمير فريد الذي حرص على ان يضم بين صفوفه عناصر شغوفة بعالم الفن السابع وعلى تماس يومي به، مُغلّباً العنصر الشاب، وكأنه بذلك يمدّ المهرجان بما يشبه التعويذة التي تقيه من تجاعيد الشيخوخة بعدما بدت علاماتها واضحة على جسده ونخر فيه المرض حتى أقعده طويلاً.

ولا شك في ان المهمة لن تكون سهلة، خصوصاً في هذا التوقيت الحرج الذي تعيشه القاهرة أسوة بمدن عربية أخرى ومحاربتها الإرهاب الذي يتربص بها. توقيت أدى الى وقف المهرجان في دورته الماضية، ليعود هذا العام أكثر قوة وإصراراً على تجاوز الصعاب والمحن.

التغيير شعاراً

عشرة أيام بدءاً من الأحد المقبل، أُريد لها أن تُعيد بريق مهرجان القاهرة وتضعه على الخريطة السينمائية، خصوصاً أن منظميه نجحوا في اقتناص 48 فيلماً في عرض أول في العالم العربي وأفريقيا، فضلاً عن 5 عروض دولية أولى خارج بلد الإنتاج، و4 أفلام في عرض عالمي أول. وعموماً تضم الأقسام الرسمية 64 فيلماً طويلاً من 30 دولة، منها 28 فيلماً أوروبياً، و6 أفلام من دول أميركا اللاتينية، و5 من الولايات المتحدة وكندا.

ولعل نظرة سريعة على البرنامج، تمكّن محبي السينما من رصد مجموعة من الأفلام التي تحمل أسماء مخرجين كبار، مثل الفرنسي جان لوك غودار وفيلمه «وداعاً للغة» الحائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» السينمائي، والأميركي ديفيد كروننبرغ وفيلمه «خريطة إلى النجوم» الذي فازت عنه جوليان مور بجائزة أفضل ممثلة في المهرجان ذاته. وهناك عميد السينما الفرنسية الراحل آلان رينيه وفيلمه «حياة رايلي» الذي فاز عنه في برلين بجائزة أفضل فيلم يفتح أفاقاً جديدة… والمخرج التركي فاتح أكين الذي يفتتح هذه الدورة بفيلمه «القطع» بعدما لفت إليه الأنظار في مهرجان البندقية – راجع مكاناً آخر هذه الصفحة -.

وإذا كان التغيير شعار هذه الدورة، فإن أول إرهاصاته يتجلى في أفلام المسابقة الدولية التي تتنافس فيها للمرة الاولى أفلام تسجيلية (3 أفلام) وتحريك (فيلمان) جنباً الى جنب الأفلام الروائية الطويلة (11 فيلم).

وسيكون الجمهور القاهري على موعد مع 3 أفلام عربية تحمل توقيع فلسطين والإمارات ومصر، هي: «عيون الحرامية» للمخرجة الفلسطينية نجوى النجار، «أحمر، أزرق، أصفر» للمخرجة الإماراتية نجوم الغانم، و«باب الوداع» للمخرج المصري كريم حنفي. أما الأفلام الأخرى التي تتنافس على جوائز المسابقة الرئيسة الست (الهرم الذهبي لأفضل فيلم، الهرم الفضي لأفضل إخراج، الهرم الفضي لأفضل سيناريو، الهرم الفضي لأفضل ممثل، الهرم الفضي لأفضل ممثلة، الهرم الفضي لأفضل إسهام فني)، فتأتي من الولايات المتحدة («خمس نجوم» لكيث ميللر و«عبر عدسات سوداء: المصورون السود وظهور أمة» لتوماس ألِن هاريس) وإيطاليا («وكان مساء وكان صباح» لإيمانولي كاروزو) والبرازيل («الصبي والعالم» لآلي أبريو) وأستراليا («بلد تشارلي» لرولف دى هير) واليونان (إلى الأبد» لمارغريتا ماندا) واليابان («جزيرة جيوفاني» لميزوهو نشيكوبو) وفرنسا («الحب من أول صراع» لتوماس كايلي و«أتينا كأصدقاء» لهوبرت سوبر) وإيران («ملبورن» لنيما جاويدي) وإسبانيا («الآنسة براكيتس» لسرجيو كندل) والدومينيكان («دولارات من الرمال» للورا أميليا غوزمان وإسرائيل كارديناس) والصين («ضوء الشمس المعتم» لليو يو).

ومن باب «الانقلاب» على الدورات الماضية تترأس مصر لجنة تحكيم المسابقة للمرة الأولى في تاريخها، ممثلة بالنجمة السينمائية يسرا، وبمشاركة المخرج الصيني وانغ زيا شواي والمخرج الإثيوبي هايلي جريما والمنتجة الهولندية كورين فان إيجرت، والمخرجة الفرنسية دومينيك كابريرا والناقد اللبناني الزميل إبراهيم العريس والناقد اليوناني ألكسيس جريفاس وكاتبة السيناريو المصرية مريم نعوم ومديرة التصوير المصرية نانسي عبدالفتاح.

وفي إطار التجديد أيضاً، تُطلق هذه الدورة للمرة الاولى في تاريخ مهرجان القاهرة «أسبوع النقاد الدولي» الذي تنظمه جمعية نقاد السينما المصريين (عضو الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية «فبريسكي»)، وهي مسابقة يتنافس فيها مخرجو الأفلام الطويلة بأعمالهم الأولى والثانية على جائزة شادي عبدالسلام لأفضل فيلم (40 ألف جنيه مصري)، وجائزة فتحي فرّاج لأفضل إسهام فني (25 ألف جنيه).

وفي أول مسابقة للأفلام القصيرة، يستضيفها مهرجان القاهرة خلال تاريخه أيضاً، سيتنافس 32 فيلماً من 25 دولة، وستمنح جائزة يوسف شاهين لأفضل فيلم قصير، وجائزة محمد كريم لأفضل فيلم للطلبة، فيما يبلغ مجموع الجائزتين 60 ألف جنيه.

ومن البـــرامج الموازية التي تُقام علـــى هامـــش المهرجان، سيكون الجمهور على مــوعد مع مسابقة «آفاق السينما العربـية» التي تضم 8 أفلام من إنتاج 2013-2014، منها فيلم «ذيب» للمخرج الأردنـــي ناجي أبو نوَّار، و«القط» للمصري إبراهيم البطوط، و«تمبكتو» للموريتـــاني عبـــدالرحـــمن ســيساكو، و«فلسطين ستيريو» للفلسطيني رشيد مشهراوي، و«يوميات شهرزاد» للبنانية زينة دكاش.

عروض خاصة

ولا تقف العروض العربية عند هذا الحد، بل يضم قسم عروض خاصة 4 أفلام عربية، هي: «ديكور» للمخرج المصري أحمد عبدالله السيد في عرضه الأول عربياً وأفريقياً، و«من ألف إلى باء» للمخرج علي مصطفى في عرضه الدولي الأول خارج الإمـــارات، والفيلم التسجيلي «مياه فضية: سورية، صورة ذاتية» لأسامة محمد ووئام سيماف بدرخان، والفيلم المصري «حائط البطولات» في عرضه الأول عالمياً.

وتعجّ هذه الدورة بالتكريمات، إذ يمنح المهرجان جائزة نجيب محفوظ (الهرم الذهبي الشرفي) لخمس شخصيات كان لمسيرتها أثر في عالم الفن السابع، وهي: السياسي الفرنسي جاك لانغ والمخرج الإيطالي سيمون ماسي والمخرج الألماني فولكر شولندورف والسينمائي المغربي نور الدين صايل والممثلة المصرية نادية لطفي التي تتصدر صورتها أفيش هذه الدورة.

أما التكريم الأكبر فسيكون من نصيب السينما اليونانية التي اختارها المهرجان ضمن قسم «السينما الوطنية ضيف الشرف»، وذلك من خلال عرض 11 فيلماً يونانياً أنتجت في ما بين 1955 و2011، وتنتمي الى كبار المخرجين اليونانيين مثل مايكل كاكويانيس، صاحب «زوربا» المصريّ الأصل ونيكوس كوندوروس، وجول داسان الأميركي الفرنسي الذي تعاون مع زوجته الراحلة ميلينا ميركوري ليعطي اليونان بعض افلامه الجميلة، بانتيليس فولغاريس، ثيو أنغلوبولوس ومينيلاوس كارماجيليوس.

ولم يغفل المهرجان القاهري رحيل النجمة المصرية مريم فخر الدين التي يهديها دورته هذه، كما يهدي الناقد السينمائي والصحافي الراحل قصي صالح الدرويش حلقة بحثه… من دون ان ننسى الاحتفال بمئوية ميلاد المخرج هنري بركات (1914 ـ 2014).

إذاً زحمة نجوم وأفلام وبرامج وتكريمات ستكون في انتظار الجمهور القاهري على مدى 10 أيام، تتحدى أعداء الفنون وتطمح بأن تعيد العصر الذهبي الى مهرجان عاش لسنوات في أحضان الكبار… فهل سيكون له هذا من جديد؟

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى