ثورة 1919: السردية والذاكرة والذاكرة المضادة

 

هلّت علينا القصص و المقالات هذا العام في الذكرى المئوية لثورة ١٩١٩، محتفلةً بثورةٍ نعتها جمال عبد الناصر بأنها كانت «فاشلة» في أهدافها. يقول عبد الناصر في خطاب الميثاق الوطني عام ١٩٦٢: «إن ثورة الشعب المصري سنة ١٩١٩ تستحق الدراسة الطويلة؛ فالأسباب التى أدّت إلى فشلها هي نفس الأسباب التى حرّكت حوافز الثورة فى سنة ١٩٥٢». جاءت تلك الاحتفالات على عكس رؤية الزعيم المصري الراحل وأشبه بردّ اعتبار لتلك الحقبة الملكية وسط تمجيدٍ لصمود شعب مصر ضد الاستعمار، وإزاحة الذاكرة المضادة التي رأت في ثورة ١٩١٩ انتفاضة شعبية لم توصل قادتها إلى مقاليدِ الحكم أو إلى جلاء الإنكليز. يبقي هذا الحال بين معسكرين، أحدهما يرى ضرورة تأريخ صيرورة أحداث التغيير السياسية على أنها عملية بلورة مستمرة وليست قوة اندفاع تحرّك التاريخ كمطرقة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ التي لا تفرّق بين الصديق و العدو في بطشها، ومعسكر آخر يرى الأمور إما أبيض أو أسود، ويؤمن بأن التغيير لا يأتي بل يُنتزع عبر الكفاح. هذه هي ربما كناية تاريخ ثوراتنا التي تأتي برياح الخريف الغاضب على حدّ وصف محمد حسنين هيكل – مثل ثورتي عرابي و ٢٥ يناير – ولكنها سرعان ما تختفي ونكتشف أنها لم تكن سوى سحابة سماء. لعل هذين المعسكرين يعبّران عن الحالة المصرية الحالية المتأزمة بين من يدعو إلى ضرورة تبنّي مفهوم «المطرقة»، ومن يدعو إلى بلورة المشروع ببطء، ولكنه يبقى ضحية لظروف مستعصية على أي تطورات.

أرّخ البعض محطات مهمة لثورة ١٩١٩ في كفاح شعبها ضد الطائفية المزعومة التي أجّجها الاحتلال الإنكليزي، وشعاراتها التي نادت بالحرية والاستقلال والجلاء بشتّى الطرق السلمية، مظهرين للعالم قدرة المصريين على التظاهر والتحرك بآليات وأساليب لاعنفية في حراك متحضّر برهن للعالم المزاعم الباطلة للاحتلال الإنكليزي في «عدم قدرة المصريين على حكم أنفسهم لكونهم متأخّرين». وهنا أيضاً التماهي مع «ثورة ٢٥ يناير» التي قابلت الرصاص باستشهاد متظاهرين سلميين أبرياء.

احتفى آخرون، مثل عبد العظيم حماد، بالأهداف التمكينية التي أتاحتها ثورة ١٩١٩ لحدوث تغييرات مهمة ببطءٍ سهلت لـ«الضباط الأحرار» دخولهم الجيش المصري، الأمر الذي لولاه لما أصبح هناك جمهوريّة مصريّة قائمة بعد الحركة المباركة التي قادها عبد الناصر. ذهب البعض أبعد من ذلك، ودعوا إلى ضرورة استنباط دروس ثورة ١٩١٩ كملحمة وطنية للتكاتف والتحرك في الوضع المربك الحالي في مصر. ردّ عليهم آخرون بضرورة دراسة الثورة دراسة ثاقبة للوقوف على أجندة سياسية لتحريك المياه الراكدة لحياة سياسية مصرية شارفت على إعلان شهادة وفاتها، إن لم تكن قد ماتت إكلينيكياً من قبل، ولا سيما أن الكثيرين الآن ينظرون إلى أحداث ٢٥ يناير على أنها ذكرى مؤلمة من ذكريات الماضي التي لم تؤتِ ثمارها. إلا أن أحداً لم يتطرق إلى الأحداث والسردية المكبوتة لثورة ١٩١٩، وظل معظم المؤرخين يسبحون مع التيار الرسمي للذاكرة الوطنية حول ١٩١٩ دون التطرق إلى الموجات العكسية والأنهار الصغيرة التي كوّنت الصخر الذي نُحِتَ فيه هذا التيار حتى صار شذرات مشتتة، بعضها ضائع وبعضها محفور في ذاكرة شخص أو اثنين مِمَّن عاشروا هذه الأحداث حتى رحلوا عن هذا العالم ومعهم الذكريات. ومن هنا ضاعت معهم قدرتنا على ‘نتاج خطاب مضاد.

في ما يأتي محاولة لإعادة إنتاج هذا الخطاب لنفرز من أحداث ثورة ١٩١٩ ما هو جدير بالاحتفاء وما هو في الحقيقة مصوغ لنا للاحتفال به، لنعرف سقف طموحات شعبنا و تطلعاته. من دون هذه الاستعادات، أخشى أن نكون قد وقعنا في فخ الاحتفاء بماضٍ ليس ماضينا، وبانتصارات ليست انتصاراتنا، بل انتصارات صُورية أصبحت مستبطنة في وجداننا نتيجة هزيمة ذاكرتنا المضادة. ولعل العبرة هنا، لمَن يدعو إلى التفكير في الخروج من مأزقنا الحالي، متذكرين أن أول الغيث قطرة وأن بدايات أي معركة على الأرض تسبقها معركة فكرية من أجل الذاكرة.

لا يتذكر كثيرون قضية عبد الرحمن بك فهمي، أحد أفندية وقادة تنظيم جماعة «الانتقام» التي كانت تستهدف الإنكليز وتحاول اغتيالهم. حين قُبِضَ على عبد الرحمن بك فهمي وخضع لمحاكمة عسكرية إنكليزية لم تكن ذكرى بطش حادثة دنشواي وظلم المحاكم العسكرية الإنكليزية قد مُحيا بعد. اقتيد عبد الرحمن بك أفندي للمحاكمة مع أعضاء آخرين من التنظيم مثل كامل جرجس عبد الشهيد وأخيه منير جرجس عبد الشهيد بتهمة «التآمر على النظام الملكي» حين كان يشغل منصب سكرتير عام اللجنة المركزية لحزب «الوفد» التي كانت تدير العمل أثناء غياب سعد زغلول الذي كان في لندن للتفاوض مع الإنكليز حول استقلال مصر. استمرّت المحاكمة ثمانية أشهر في عام ١٩٢٠ وانتهت بإدانة المتهمين في أكتوبر ١٩٢٠، لكن الحكم ظلّ معلقاً إلى حين تصديق إنكلترا عليه، وحينها أيّد المستشار القضائي أحكام الحبس خوفاً من توابع أحكام إعدامات جديدة.

لم يكن هدف المحاكمة إدانة هؤلاء «المتآمرين»، على قدر ما كان محاولة لشيطنة ثورة ١٩١٩ بنعتها «ثورة عنيفة» و «غير حضارية» وحرمانها تسميتها ثورةً حضارية. بلع حزب «الوفد» الطعم، وخان أعضاء التنظيم السرّي الذين عملوا بصمت طوال فترة كفاحهم المسلّح كي يضغطوا على الإنكليز. تشير أوراق القضية إلى أن أحد أهم عناصر استراتيجية الإنكليز حينها كان شيطنة شخص سعد زغلول رئيس حزب «الوفد» الذي كان في لندن يتفاوض مع الإنكليز. فأثناء سير الدعوى تساءل القاضي الإنكليزي عمّا إذا كان سعد زغلول يعلم عن نشاط جمعية «الانتقام»، وإن كان قد شارك في أنشطتها أو دعمها، الأمر الذي تطلّب نفياً قاطعاً من سعد زغلول و التبرّؤ من العمل المسلّح ذاك، رغم كونه أحد أجنحة «الوفد» في ذلك الوقت. قال سعد زغلول إن «ثورة ١٩١٩ كانت ثورة سلمية»، في تلغراف أُرسل من لندن. انتهز الإنكليز زخم القضية وقرروا استهداف سياسيين آخرين مثل فخري عبد النور، أحد قادة «الوفد» الذي حُقِّق معه بتوجيهات من الخارجية الإنكليزية بربط كل أعمال العنف ضد الاستعمار بتنظيم جمعية «الانتقام». وبهذا، شق الإنكليز صف «الوفد»، وصارت هذه الواقعة في غياهب النسيان دون أدنى تبيان.

حاول الإنكليز طمس حركة المقاومة كاملاً بتذكير قاضي المحاكمة بمحاولة اغتيال رئيس وزراء مصر عام ١٩١٩ يوسف وهبي باشا، رغم اعتراف عريان يوسف عريان بانضمامه إلى جمعية «اليد السوداء» بغرض اغتياله و القبض عليه في مسرح الجريمة بعد إلقاء قنبلة على موكب رئيس الوزراء ونجاته دون أي جروح. قرر عريان أن يغتال يوسف وهبي بنفسه كمسيحي لتجنب أي توابع سلبية للحركة الوطنية مثلما حدث في تجربة الورداني الذي قيل عنه إن دافعه إلى اغتيال بطرس غالي باشا كان لتطرّفه، ولكون بطرس بطرس غالي مسيحياً، وليس نتيجةً لموقف الورداني الوطني الذي رفض مشاركته في محكمة دنشواي التي حكمت بإعدام فلاحين مصريين أبرياء كانوا يدافعون عن أنفسهم ضد جنود إنكليز قرروا أن يصطادوا حمام الفلاحين. استند عريان في محاكمته إلى تلغرافات الحركة الوطنية التي حثت يوسف باشا وهبي على أن يستقيل من منصبه، وقرار بطريرك الكنيسة القبطية والأعيان الأقباط بمطالبتهم أيضاً بعدم قبول يوسف وهبي بقيادة الحكومة بعد انتفاضة الشعب في ١٩١٩. في كلتا الحالتين، عاش عريان وعبد الرحمن بيك فهمي في صمت وفي منفى بمعزل عن المجتمع بعد خروجهما من السجن. حتى عبد الرحمن بك فهمي لم ينجح في ترشحه للبرلمان في عام ١٩٢٤ لإدانته من قبل محكمة عسكرية، فيما اعتبر آنذاك «جريمة مخلّة بالشرف»، الأمر الذي لم يتحرك له حزب «الوفد»، بل عارضه و فضلَّ أن يتناساه ومعه ذاكرة كفاحه. وبهذا أصبح رفيق الماضي عدو اليوم.

تعتبر قصتا عبد الرحمن بك فهمي وعريان يوسف عريان تجسيداً حياً لمعارك الذاكرة، بدونهما تستمر سردية ثورة ١٩١٩ بكونها سلمية ومتحضّرة، وهي ذات السردية التي تبنّاها الاستعمار آنذاك لفرملة أي مطالب جادة من أجل تغيير جذري، وظل «الوفد» منخرطاً من أجل معركة الدستور بدلاً من معركة الجلاء.

ما أشبه اليوم بالبارحة في المعارك القائمة، التي ليست معاركنا، والتي تخاض اليوم في حاضرنا من أجل مستقبل ليس مستقبلنا، مطلوب منا أن نضحي من أجله ومن أجل مسيرة الوطن. ليست المعضلة أن نقبل أو نرفض إملاءات نخبة تنصّب نفسها ناطقة باسم الوطن، بل تفكيك تلك المفاهيم التي تُملى علينا باسم الوطن، فليست كل وطنية تحمي الوطن، وليس كل ناخب من النخبة، وليس كل شعبوي من الشعب، وليس لكل قائد جمهور.

السخرية الأليمة في الأمر أن يصبح التاريخ في هذه الأيام ساحة معركة تخاض من أجل مستقبل الوطن مثلما كان في بداية القرن العشرين حين استكتب الملك فؤاد عدة أكاديميين أجانب لكتابة تاريخ مصر من خلال إنشاء أرشيف قصر عابدين الجديد ليثبت للعالم اهتمام المصريين بتاريخهم وأن المصريين قادرون على المحافظة على تاريخ بلدهم وحضارته وإرثه بدلاً من الاستعمار الذي كان يشرعن وجوده عبر تزعمه حرباً للحفاظ على الآثار المصرية من المصريين! صار مشروع أرشيف قصر عابدين بدعم ملكي دون أدنى اهتمام للمحتوى الذي كان يُكتب عن مصر والذي كان يعبّر عن مطامع ومحطات تاريخ أوروبا أكثر مما كان عن تاريخ مصر. أما ما هو موجع في هذه المفارقة، فهو أننا نرى اليوم من يحمل لواء راية ثورة ١٩١٩ وينادي بمبادئ تقيّد أيدي المصريين في سعيهم لحياةٍ كريمة وتكبح طموحهم بأفق أوسع للتغيير عبر تقيّدهم بنخبةٍ وقادة ١٩١٩ السلميين، وهو عكس السردية المضادة التي تحكيها كل من محطات عريان يوسف عريان و عبد الرحمن بك فهمي أفندي.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى