ثيوذوراكيس: دفن حياً مرتين ..و«الجزيرة» دفنته مرة ثالثة!

نشر موقع «الجزيرة نت» في 31 تموز الماضي، مقالة قيمة عن الموسيقار اليوناني ميكيس ثيوذوراكيس. علَت المقالة صورة للفنّان مرفقة بـ: «الراحل ثيوذوراكيس طوَّع الموسيقى لخدمة القضايا العادلة في العالم». في عيده التسعين، لا يزال زوربا اليونان حياً يُرزق، وينشط فنياً وسياسياً، كما هو عهده دائماً.

قدَّم الموسيقار والكاتب والشاعر والمناضل السياسي، خلال 70 عاماً، حالات خاصة من الإبداع والجمال. يعيش المتلقي معه لحظات من الانبهار والمتعة، فيما تثار في داخله مجموعة من التساؤلات المتعلّقة بالبحث عن الذات، ثقافياً وفنياً ووجودياً. سيغتبط أيّ شخص حينما يسمع لحن «زوربا اليوناني» الشهير المستوحى من رواية الكاتب والفيلسوف الراحل نيكوس كازانتزاكيس. يفسر ثيوذوراكيس سرّ نجاح لحنه، بالقول: «بعد قراءتي الرواية، شعرتُ أنَّ زوربا العاشق للحياة والنساء والموسيقى يشبهني كثيراً، بل هو أنا! نعم أنا ولا أحد غيري».

ويرى ميكي ـ كما ينادونه في اليونان ـ أنَّ الأعمال الموسيقيّة القيّمة تجّسد إمكانيات الملّحن وقوته في معالجة موسيقاه، أي بمعنى الانتقال من منبع الإبداع المتماسك إلى قوّة الخيال والكمال الفنّي. كما أنَّ نوعيّة العمل الموسيقي، تحدّدها درجة الانفعال الحسيّة والعاطفية. وفي حديثه عن موسيقاه، يقول: «إنّي أحاول المزج بين عناصر الموسيقى الهلينستية وإرث السيمفونية الأوروبية والعصرية. في المقابل، أثّرت آرائي ومعاناة شعبي وكل الشعوب، وإيماني بالعدالة والحرية وحقوق الإنسان، وبالطبع ايديولوجيتي (الماركسية اللينينية)، بعمق في إبداعي الموسيقي».

يتباهى الموسيقار، المولود في 29 تموز 1925، من أصول كريتية في جزيرة خيوس، بأنَّه مناضل أصيل وقف في وجه كل أنواع بربريات السلطة. فقد قسّم حياته بين الموسيقى والنضال من أجل القيم الإنسانية. وربط بين الفنّ والتوجه الايديولوجي المتحرّر من الأطر التنظيمية.

في عمر الـ 17 قدَّم طروبارية «كاسياني» في مدينة «تريبولي ـ طرابلس» اليونانية، قبل أن ينضمّ إلى صفوف المقاومة الوطنية ضدّ الفاشية الإيطالية والاحتلال النازي الألماني، ولاحقاً الاحتلال الانكليزي. أُسِر، للمرة الأولى، على أيدي الفاشيين في 25 آذار 1943 وتعرض لأبشع أنواع التعذيب، لكنّه استمر في مسيرته مقاوماً الاحتلال ومن بعده قوى اليمين المحلي التي تعرّضت له أجهزتها بالضرب المبرح في 1946 حتى فقد وعيه، فوضعته في مشرحة ظناً منها أنه مات. في 1948، جرى نفيه إلى ثكنة الموت في جزيرة ماكرونيسو، ودُفن حيّاً مرَّتين.

يقول ثيوذوراكيس إنَّ مقاومته الاحتلال ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمؤلفاته الموسيقية في تلك الحقبة، ومنها لحن نشيدَي «روميوسيني» (الروم) و «غيتونييس تو كوسمو» (حارات الدنيا) للشاعر اليوناني الراحل يني ريتسوس.

وبعد تخرجه من معهد الموسيقى الاثيني (1950)، غادر إلى باريس (1954) وتعلَّم التحليل الموسيقي على أيدي Olivier Messiaen و Eugene Bigot. وحتى العام 1960، لحَّن عدداً من الأعمال الموسيقيّة الأوروبيّة، ومنها موسيقى أهمّ العروض السينمائية وعروض الباليه. نال جائزة مهرجان موسكو على مؤلفه للبيانو والاوركسترا «سويت 1» العام 1957، وجائزة لينين للسلام العام 1983.

عاد إلى اليونان في 1960 وفي جعبته لحنٌ لقصيدة «أبيتافيوس» (الجمعة العظيمة) للشاعر ريتسوس، إثر مقتل 30 عامل تبغ وجرح ما يقارب الـ 300، خلال تظاهرة فتحت فيها الشرطة اليونانية النار عليهم في أيار 1934. وتخلّد القصيدة الجنائزيّة المؤلفة من 20 نشيداً أو ترنيمة ذكراهم، لكن النظام الحاكم في حينه صادرها وأحالها على محرقة الكتب أمام أعمدة معبد زيوس.

سطع نجم ثيوذوراكيس العالمي سنة 1964 بعد تلحينه موسيقى فيلم «زوربا اليوناني» للمخرج ميخائيل كاكويني. وبعد الانقلاب الديكتاتوري في 21 نيسان 1967، انتقل إلى العمل السياسي السري ليصدر أول نداء للمقاومة في 23 نيسان، ويُعتقل في شهر آب من العام ذاته، ويوضع في سجن انفرادي. لكنّه استمر في كتابة ألحانه ونقلها سراً خارج الحدود إلى الفنانة الراحلة ميلينا ماركوري والمغنية اليونانية ماريا فاراندوري، التي لا تزال تحيي أناشيده إلى اليوم.

وبسبب تدهور وضعه الصحي وحملة الاحتجاجات الأوروبية، أُجبر جنرالات الانقلاب على الإفراج عنه، فانتقل في نيسان 1970 إلى باريس، حيث خاض معركة نضاليّة من أجل عودة النظام الديموقراطي إلى اليونان، فتحوّلت حفلاته الموسيقية إلى نموذج نضالي لكل الشعوب التي تعاني المشاكل نفسها: الإسبان، والبرتغاليين، والإيرانيين، والأكراد، والأتراك، والتشيليين، والفلسطينيين، الذين طالما كان داعماً لنضالهم.

في العام 1978، عمل على تقديم لحن للنشيد الوطني الفلسطيني العتيد في بيروت بحضور قيادات سياسية لبنانية وفلسطينية، وكان المفترض أن يكتب الشاعر الراحل محمود درويش كلمات النشيد الذي لم يبصر النور.

قام بجولات عديدة في الدول العربية: الجزائر، ومصر، وتونس، وسوريا، ولبنان (مسرح البيكادلي)، ووضع ألحان موسيقى أوبرا «ليستارتي» في العام 2002 إيماناً منه بالسلام في العالم.

انتُخب نائباً مرتين، وعُيّن وزير دولة، لكنّه بقي منتقداً لظاهرتي الفساد والظلم في اليونان، وارتبط بعلاقة صداقة مع الشاعر التشيلي بابلو نيرودا، والشاعر الفرنسي لوي اراغون. ومهما كُتب عن حياة زوربا اليونان، لا يمكن أن يعطيه حقه.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى