فن و ثقافة

جائزة سلطان العويس الثقافية.. من التكريم إلى صناعة الذاكرة العربي

محمد الحمامصي

جائزة سلطان العويس الثقافية.. من التكريم إلى صناعة الذاكرة العربي – الجائزة جاءت لتؤكد أن العطاء الحقيقي هو ما يخلّد صاحبه في ذاكرة الأمة، وأن الثقافة لا تزدهر إلا حين تجد من يمنحها الرعاية من دون حساب.

 

منذ انطلاقتها في عام 1987، تحولت جائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية إلى علامة مضيئة في المشهد العربي، ليس فقط بفضل قيمتها المادية والمعنوية، بل لأنها حافظت على اتزان نادر بين معيار الإبداع وأفق الرؤية، وبين المحلية المنفتحة والعروبة الجامعة، لتصبح واحدة من أكثر الجوائز احترامًا وموثوقية لدى المبدعين والنقاد على السواء.

جائزة سلطان العويس الثقافية اختيارات تعبر عن تلاقٍ بين الجذور والآفاق

في دورتها التاسعة عشرة (2024–2025)، التي يحتفى بنتائجها وتوزع جوائزها في الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. كرست المؤسسة رؤيتها العملية والفكرية باختيارات تعبر عن تلاقٍ بين الجذور والآفاق. فقد فاز في فرع الشعر الشاعر العراقي حميد سعيد. وهو حضور شعري يمتلك تاريخًا وإيقاعًا يوازن بين نقاء اللغة وحرارة الموقف الإنساني. أما في فرع القصة والرواية والمسرحية، فقد حصلت الكاتبة العراقية إنعام كجه جي على التكريم. وهي صاحبة صوت روائي يستدعي الذاكرة والأنوثة والمنفى ليصوغ من التجربة رؤية تتجاوز الحواضر وتربط بين الخاص والعام. وفي فرع الدراسات الأدبية والنقدية. نال الناقد المغربي حميد لحمداني الجائزة تقديرًا لمسيرته في تطوير أدوات القراءة السردية وتأسيس رؤية نقدية منهجية. بينما ذهبت جائزة الدراسات الإنسانية والمستقبلية إلى المؤرخ التونسي عبدالجليل التميمي. اعترافًا بجهده الموثق في كتابة التاريخ الفكري الحديث وبناء خرائط معرفية تربط بين الموروث والبحث العلمي.

هذه الأسماء، على اختلاف بلدانها واتجاهاتها، لا تقرأ كقائمة فائزين فحسب، بل كخريطة زمنية تعبّر عن انشغال الجائزة بصيانة الذاكرة وتوسيع الحقل الثقافي. فكل اختيار هنا ينسجم مع فكرة أن التكريم ليس مكافأة لحظة، بل استثمار معرفي يغذي الأرشيف والبحث والقراءة.

الجائزة درس عملي في إدارة الرعاية الثقافية.

هنا يجدر التوقف عند ما يمثله البعد الإماراتي لهذه المبادرة: لم تأتِ الجائزة من فراغ، بل من بيئة شهدت تحولات سريعة في بناء البنية الثقافية المؤسسية. وهذا يمنحها قيمة نموذجية؛ إذ تظهر كيف أن دولة حديثة العهد بالمؤسسات الكبرى يمكن أن تصنع مشروعًا ثقافيًا له طمأنينة الاستقلال وجرأة الانفتاح. لكن هذا النموذج ليس محض فخر خليجي، بل درس عملي في إدارة الرعاية الثقافية.

جائزة سلطان العويس رسالة حضارية تتجاوز حدود التكريم

وفي جوهرها الرمزي الأعمق، تحمل الجائزة رسالة حضارية تتجاوز حدود التكريم إلى إعادة تعريف العلاقة بين السوق والمعرفة. فعندما يتحول رأس المال الخاص إلى رعاية الثقافة، يصبح ذلك فعلًا مؤسسًا لرؤية جديدة حول دور الثراء في خدمة الفكر. لقد اختار سلطان العويس أن يجعل من مدخراته جسرًا بين المال والخيال، فاستثمرها في إرساء تقاليد ثقافية مؤسسية، لا في تسويق مؤقت أو احتفالات عابرة. وبهذا الفعل النبيل قدّم نموذجًا لما يمكن تسميته “المواطنة الثقافية”، حيث يتحول النجاح الفردي إلى مشروع عام يخدم الوعي الجمعي ويعزز حضور الثقافة في الحياة اليومية.

غير أن هذه الرسالة الأخلاقية لا يمكن أن تظل فاعلة ما لم تترافق مع بنية مؤسسية متجددة تضمن الشفافية والاستمرارية. فاستقلال الجائزة الأخلاقي يحتاج إلى هيكل إداري رشيد، ومعايير تقييم واضحة ومفتوحة للحوار النقدي، وآليات مراجعة دورية لسياساتها كي تتجنب الجمود وتفسح المجال للأصوات الجديدة وللهوامش الإبداعية. فالجوائز الكبرى لا تقاس فقط بتاريخها، بل بقدرتها على تجديد ذاتها واستيعاب الأجيال اللاحقة.

الجائزة مرآة تحفظ أسماء الماضي وتوثق منجز الحاضر .

إن ما يميز جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، ويجعلها مشروعًا يستحق التأمل. هو قدرتها على أن تكون مرآة للتاريخ والمستقبل معًا: مرآة تحفظ أسماء الماضي وتوثق منجز الحاضر أيضا. وفي الوقت نفسه بنك رؤية يستثمر في أجيال قادمة. ولو كانت الجائزة ثمرة حلم فردي، فإن أهميتها تكمن في تحويل هذا الحلم إلى فعل مؤسسي مجتمعي. ومع كل دورة جديدة تضاف إلى سجلها، تذكّرنا المؤسسة بأن الثقافة ليست مجرد متعة ذوقية. بل فعل مسؤولية وجهاد يومي لصياغة فهم مشترك للعالم. لتبقى، كما كانت دومًا، نموذجًا يعلمنا أن الفعل الثقافي الحقيقي يبدأ حين يتحول التكريم إلى التزام. وإلى خطة عمل معرفية تجعل من الإبداع عنوانًا للاستمرار، ومن الذاكرة مصدرًا للحرية والكرامة والجمال.

أيضا يمكن النظر إلى الجائزة بوصفها ذاكرة ثقافية عربية حية. فحين نتأمل قوائمها عبر السنوات. نرى أنها لم تكن فقط تكرم مبدعين، بل كانت توثق بطريقة رمزية مسار الثقافة العربية في القرن الأخير. فالشعراء الذين نالوا الجائزة يعكسون تحولات الذائقة الشعرية من الكلاسيكية إلى الحداثة. والروائيون يجسدون انتقال السرد من الواقعية الاجتماعية إلى التجريب الفني. والنقاد والفلاسفة الذين تم الاحتفاء بهم رسموا خرائط الفكر العربي من النهضة إلى أسئلة الحداثة والهوية. وهكذا أصبحت الجائزة بمثابة أرشيف رمزي للثقافة العربية الحديثة. يحفظ أسماءها الكبرى ويمنح القارئ والمؤرخ على السواء مؤشرات دقيقة على اتجاهات الفكر والإبداع.

جائزة سلطان العويس تؤكد أن الثقافة العربية تظل وحدة حية في تنوعها.

وما يميز تجربة العويس أيضًا. أنها انطلقت من الإمارات في زمن كان الفعل الثقافي المؤسسي الخليجي ما يزال في بداياته. لتصبح نموذجًا في كيفية أن تحتضن بيئة حديثة العهد بالاستقلال والتحديث. مبادرة قادرة على منافسة مراكز ثقافية راسخة مثل القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد أيضا. هذا التحول يعكس نضجًا مبكرًا في الوعي الإماراتي بأهمية الثقافة كرافعة للهوية والتنمية. كما ويجعل الجائزة رمزًا من رموز الحضور الإماراتي في المشروع العربي العام. لقد انتقلت من كونها جائزة وطنية إلى كونها مؤسسة عربية بامتياز. تفتح أفقها لكل مبدع دون انحياز جغرافي أو لغوي، وتؤكد أن الثقافة العربية، برغم تعدد أقاليمها، تظل وحدة حية في تنوعها.

وتكمن قيمة جائزة سلطان العويس الثقافية كذلك في بعدها الرمزي الحضاري. فهي المثال الأوضح على أن الثروة حين تتحول إلى معرفة تصبح استثمارًا في المستقبل، لا في السوق. لقد استطاع سلطان العويس، الشاعر الذي جمع بين المال والخيال، أن يجعل من نجاحه الاقتصادي وسيلة لبناء مشروع ثقافي دائم، يعيد تعريف العلاقة بين رأس المال والثقافة. في زمن يسوده منطق الربح والخسارة، جاءت الجائزة لتؤكد أن العطاء الحقيقي هو ما يخلّد صاحبه في ذاكرة الأمة، وأن الثقافة لا تزدهر إلا حين تجد من يمنحها الرعاية من دون حساب، إيمانًا بدورها في صياغة الوعي الجمعي وصيانة المعنى الإنساني.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى