جسر نحو المصالحة الشاملة
قد ينتقد البعض في تونس، ومن الناحية التنظيمية أو الإجرائية، سير أعمال هيئة الحقيقة والكرامة التي تتولى الإشراف على مسار العدالة الانتقالية في إطار الانتقال الديمقراطي، لكن لا أحد يجرأ على التشكيك في مصداقيتها وضرورة وجودها كإطار قانوني يضمن محاسبة الجناة وإنصاف المتضررين على ما يزيد عن نصف قرن من تاريخ البلاد، وذلك في سبيل تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة.
تكتسب هيئة الحقيقة والكرامة في تونس شرعيتها من كونها منبثقة عن المجلس الوطني التأسيسي، وتضم أعضاء منتخبين ديمقراطيا ومشهود لهم بالكفاءة والضمير المهني كما يوحي بذلك نص القسم أمام رئاسة الجمهورية سنة 2014والذي جاءت عبارته على النحو التالي ” أقسم بالله العظيم أن أقوم بمهامي بحياد وإخلاص وأمانة وشرف، دون أي تمييز على أساس الجنس، أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي أو الانتماء أو الجهة وأن ألتزم بعدم إفشاء السر المهني وباحترام كرامة الضحايا وبالأهداف التي أنشئت من أجلها الهيئة”.
وعن الحملة التي تتعرض لها الهيئة من طرف جهات سياسية تسحب بعض الملفات الجنائية لصالحها، قال نائب رئيس هيئة الحقيقة والكرامة، محمد بن سالم،في توضيحات نشرتها الهيئة الاثنين الماضي، على موقعها بالانترنت، إنه ” ليس لهيئة الحقيقة والكرامة أي سلطة على الملف المحال على الدوائر القضائية المتخصصة والإجراءات المتخذة حياله التي تصبح اختصاصا مطلقا للسلطة القضائية.
كما جاء في التوضيح أن الهيئة ” تحيل الملفات المتعلقة بالعدالة الانتقالية على الدوائر القضائية المتخصصة بعد ختم الأبحاث فيها طبقا للفصل 42 من القانون الأساسي المنظم للعدالة الانتقالية”.
وتأتي توضيحات بن سالم عقب إصدار أحزاب وكتل برلمانية لبيانات انتقدت فيها هيئة الحقيقة والكرامة واتهمتها بالوقوف وراء إعادة محاكمة وزراء ومسؤولين سابقين مجددا في قضايا نظر فيها القضاء سابقا ولاحظ بن سالم في هذا الصدد أن الهيئة ” ليست هي الجهة التي أصدرت القانون أو الدستور الذي أقرّ موضوع “ اتصال القضاء وسقوط الجريمة بمرور الزمن ” مشيرا الى ان الدستور نص في النقطة التاسعة من الفصل 148 ان الدولة ” تلتزم بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن.”
وقال بن سالم إن هيئة الحقيقة والكرامة تقوم بدور النيابة العمومية في إثارة الدعوى كما تتولى أعمال التحقيق الجنائية المستوجبة فيما يثبت فيه حصول انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ودورها مشابه لما يقوم به قاضي التحقيق بدائرة الاتهام.
وأضاف أن الهيئة تعدّ لائحة الاتهام في الملفات التي تتم إحالتها على الدوائر القضائية المتخصصة بناء على دعاوى يتقدم بها مودعو الملفات من الضّحايا وبعد عمليات بحث وتحري، وذلك في إطار كشف الحقيقة ومساءلة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من أجل إنصاف الضحايا وضمان عدم التكرار.
وكانت أحزاب “حركة مشروع تونس” و”آفاق تونس” والكتلة البرلمانية لحزب “نداء تونس” قد أصدرت بيانات حملت فيها مسؤولية فشل مسار العدالة الانتقالية الى رئيس هيئة الحقيقة والكرامة كما انتقدت ما إعتبرتها إعادة لمحاكمة وزراء ومسؤولين سابقين في العديد من القضايا التي سبق للقضاء البت فيها نهائيا ما يكرس مناخ شك في استقلالية السلطة القضائية وخضوعها للضغوطات من قبل هيئة الحقيقة والكرامة وفق ما ورد في بياناتهم.
يذكر أنه تم إحداث 13 دائرة قضائية متخصصة في العدالة الانتقالية في محافظات عديدة داخل البلاد. وقد شرعت بعض الدوائر في النظر في الملفات التي أحيلت إليها من قبل هيئة الحقيقة والكرامة.
وقد تلقت هذه الهيئة وفق آخر احصائيات لها 62716 ملف انتهاك وعقدت نحو 49654 جلسة استماع للضحايا.
يؤكد حقوقيون أن تجربة العدالة الانتقالية في تونس تتميز بإطار قانوني لا مثيل له، مقارنة بتجارب لجان الحقيقة الأخرى في دول مثل سيراليون، تيمور الشرقية، شيلي، بيرو والبرازيل. فالإطار القانوني الذي بنيت عليه التجربة التونسية، يكتسي أهمية وسابقة إقليمية وعربية نحو ترسيخ وتعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية وإصلاح المؤسسات بعد محاربة الفساد والمفسدين، وذلك لما تضمنه قانون العدالة الانتقالية والنظام الداخلي لهيئة الحقيقة والكرامة وقراراتها في شأن اللجان الفرعية. هذا بالإضافة إلى التأكيد على أن المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب. وبالتالي، فالنموذج التونسي من خلال أنظمته القانونية يعد فريدا واستثنائيا مقارنة بتجارب دولية أخرى.