جلبير مونتيني شاعر كبير لكنه مغمور بإرادته
البحر مثل بيت شعر لا ينتهي
لن تحتاج لنواح شاسعة كي تصنع إمبراطورية
كن مثل نستور الحكيم كي تعود لمملكتك في بر وأمان
يكفي فج من الأرض وحصيرة
أقراص خبز وعنب وتين وقارورة خمر
وامرأة بلا كحل ولا عطر صناعي
لتصير إمبراطورا حتى وأنت بلا ثياب.
يضم هذا الكتاب “رياح اليوم القادم” مجموعة من قصائد الشاعر الفرنسي جلبير مونتيني الذي كما يشير المترجم جبار ياسين إلى أنه شاعر مغمور لم ينشر من قبل كتابا شعريا، لكنه نشر قصائده في المجلات، وأنه لم ينشر في مجلة مرتين، هي فقط مرة واحدة، هذه القصائد تكشف عن شاعر كبير يملك نسيجا شعريا متفردا في رؤاه وأفكاره وجمالياته الفنية، وذلك رغم جريمته في الجزائر قبل أكثر من نصف قرن والتي أصيبها من جرائها بالجنون وسرح من الجيش وعيشه في عزلة حتى الآن.
ربما القصائد التي اختارها المترجم وضمها الكتاب تم اختيارها بعناية فائقة وبحس شعري عال وراق، لكن على أية حال لا يمكن أن نغمض أن وراءها تجربة عميقة وشاعر متمكن استطاع أن يصقل تجربته ويجعل من نصه نصا مختلفا في فرادته.
جبار ياسين لم يقدم لنا الكثير عن مونتيني حيث كنا نأمل في مقدمة كاشفة لعالمه ومراحل تجربته، لكن بالنهاية لا يمكن إلا أن نثني عليه ترجمته وتعريفنا بهذا التجربة الشعرية المهمة، يقول ياسين عن مونتيني في مقدمته القصيرة للكتاب الصادر عن دار ظلال وخطوط الأردنية “جلبير مونتيني شاعر فرنسي مغمور بإرادته. ولد في مزرعة والده الصغيرة في العام 1934 في نوفيل قرب مدينة بواتيه. لم يحصل على تعليم عال، واكتفى بشهادة الابتدائية ليعمل في مزرعة والده. في شبابه شارك في حرب الجزائر كمجند في قوات المظليين. تركت الحرب آثارها عليه (جرح عميق لن يندمل حتى بعد موتي) كما يقول. أثناء مداهمة منزل في الجزائر العاصمة، من شدة رعبه، فتح النار وقتل أربعة من الثوار مع زوجة واحد منهم. لم يغفر لنفسه تلك الفعلة، فأصيب بالجنون. وضع في مصحة نفسية لعام ثم سرح من الجيش، وعاد للعمل في مزرعة والده حتى تقاعده. لم يخرج من مزرعته منذ عودته إليها قبل 55 عاما. أنجبت زوجته 13 طفلا ومنحها الرئيس الأسبق ميتران وسام الأمومة الذي لم يحضر الزوج مراسيم تسليمه”.
ويضيف ياسين أن جلبير مونتيني لم ينشر كتابا شعريا، رغم كتابته للشعر منذ 50 عاما، وكل يوم، كما يصرح. نشر قصائده في مجلات فرنسية كثيرة ولم ينشر في المجلة الواحدة أكثر من مرة، وقد نشر بعض قصائده بأسماء مستعارة. أغلب قصائده هي استذكار للعالم قبل أن يدخل في عزلته. يكتب قصائده على الورق بقلم الحبر التقليدي ويرفض استعمال الهاتف المحمول والإنترنت. يقضي وقته، وقد تجاوز الثمانين بعامين، بين مكتبته وحديقته وأحفاده وأحفاد أبنائه”.
وهنا نكتفي بقصيدة:
“أيوليونيس”
هبي أيتها الريح
هبي من الجنوب
فالعالم بحاجة إلى رقصة
إلى ريش يغطي عورات ذنوبه
إلى رمل وحصى بركاني ينزع أصداف جلده النتنة
إلى عويل يرطب صدأ حنجرته
أنت دائما في المقدمة كموسيقى فاغنرية
تعزفها هوائيات ايوليونيس
حينما تتهرأ الحضارات
وأنت سيدة بلا خمار
تتثاءب وتعطس بلا نفاق أنثوي
لا تتكحل ولا تتحمر
ولم تشرت المساحيق أبدا
باهرة بجمال يلامس الشهوة.
اسمعي يا هيلين ، يا أجمل امرأة في اسبارطة
منذ يوم طروادة لم نخض حربا من أجل الجمال
طوبى لمن دافع عنك
المرميديون انصرفوا حزانى
فاخيل لا يرافقهم في رحلة العودة من طراودة المحطمة
تركوا دخان المدينة مختلطا بدخان جثمانه
أوليس ألقى نظرة أخيرة عليه
ثم اعتلى قيدوم مركبه
ناظرا إلى الأفق ، لا على جثة صاحبه
واختفى في منفاه.
اسمعي أنت الراقدة إلى جواري الآن
العرب يحرثون بحار النفط
بعد أن فتحوا نصف الدنيا بسيوف لا يزن الواحد منها
رطلا
ممتطين صهوات خيول أصيلة تجمح
حينما يتوقف الفتح
الجرمان تقهقروا من سهوب روسيا
مكبلين بالجليد وحول فيالقهم تهب رائحة الهزيمة العطنة
والفرنجة منشغلين بمراياهم المحدبة
يبصرون العالم منفوخا كثوب عارضة الأزياء
مازالت حرب الأوراس تقلق نومهم
بينما الأرض تتقلص يوما أثر يوم
حتى المقابر صارت غالية الثمن
تدفع ثمن قبرك عرق جبينك لثلاثة شهور
لتحظى بقطعة مرمر وشاهدة
بضعة زهور أقحوان في عيد الموتى
وصك تمليك لقرن
لم يعد الجليد أبيض على أغضان الرند التي تحيط القبور
الهواء الملوث بدخان وبنترونات رسائل الهاتف
ونحن مازلنا نتنزه يدا بيد
على رمل الساحل في جزيرة ليل دو غييه
الطقس جميل هنا حين تخلو السواحل من المصطافين
أقدامنا تتبارك بالرمل وقطع الأخشاب التي يرميها الموج
نبحث عن نجمة البحر التي جفت
وعن عظمة بيضاء
هي بقايا أخطبوط رمته الأقدار ميتا
نجد الصدف الميت ونضعه على آذاننا
لنسمع موسيقى بحرية خفتت منذ سنين ضوئية
لن يتوسع البحر أكثر من هذا
ما دام الكونكريت يطبق على أطرافه
وما دامت ساعة البلدية في القرية
متوقفة العقارب منذ زمن نسيه أهل قرية آرس
فالزمن لم يعد يهم أحدا
مادامت شاشة الهاتف المحمول تشير إليه
ثانية، ثانية
والناس تغيروا
بعد أن انقلب عليهم سحرهم
تعالي أيتها الموجة
تعالي بتؤدة ودلكي أجسامنا
من عفن الأسمدة الصناعية ورائحة المبيدات
الدفء قرب موقد، آه ما أجمل تلك الليالي البيضاء
كنا نقول ونحن مازلنا نسير بين القبور المطلة على الأطلسي
نطالع كتابا برقاق قديمة
والصلبان الذهبية التي صدأت من قطرات صمغ أوراق الحوار
والمسيح المسجي الذي حال لون جسده إلى البياض
وخلايا النحل التي تحفظ رماد الموتى
جوار الكنيسة التي لم يبق منها غير برجها جوار حقل الكروم.
في يوم بعيد
كنا نسرق الصلبان من القبور
لنزين بها جدران غرفتنا العارية من الفنون
للصلبان فن قديم
اتقنته البشرية قبل يسوع وباراباس
الصلبان، الصلبان
هي علامة مفتتح جحيم الأرض
مستقيمة ومعقوفة
تقولين لي: لنترك زهور المقبرة ونمضي للعراء
إلى الحقول المحروثة في الخريف
بانتظار الحبة التي ستثمر ذهبا
حيث الأرانب البرية نحفر جحورها
والقطا يتخفى بين كتل الأرض التي لم يهرسها المحراث
تعالي لنفرح بشواطئ الجزائر والاسكندرية وروايون وسان مالو
لم نرها منذ عقود خلت
ولن ننسى شاطئ الغولدمور على مرمى حجر من عدن
الموج هناك أبيض، ضاحكا مازال، مليئا بالفاكهة البحرية
والنجوم في الليل أكثر بريقا من نجوم المدن المنارة بالكهرباء
هل تعرفين ابن الصباح وقلعة ألموت؟
يوما كان يجمع أصحابه في المروج
يوزع عليهم صولجانات الآخرة
فيمضون بلا رجعة مسرورين بوخزة السيف
الذي ينقلهم للجنان.
تعالي لنقص على بعضنا حكايات أسلافنا
المساء قريب
والليل سيكون مفتاحا لباب اللذة وأنغام الكلام
كلمات، كلمات / كلمات.
ميدل إيست أونلاين