جملة اعتراضية كيـف تـقتلنـا المـرونـة؟ (علاء الاسواني)

علاء الاسواني

 

القبـول بالحـوار مع مرسـي قبل محاكمتـه على القتل والتعذيب، هو خذلان للثورة. القبول بدخول انتخابات مجلس الشعب بقانون باطل ودستور مفروض تكريس للوضع الذي فرضه «الاخوان». من يقبل بالحلول الوسط يساعد هؤلاء على إجهاض الثورة والاستبداد يحكم مصر إلى الأبد
افترض أن لديك شقة مفروشة تؤجرها وتستعين بإيرادها على أعباء الحياة. ذات يوم جاء اليك رجل متدين ملتح يطلب استئجار الشقة فكتبت معه عقداً لمدة أربع سنوات. استلم المستأجر الشقة وبعد أيام فوجئت بأنه استولى على الأثاث الفاخر الذي تملكه وقام بتوزيعه على أقاربه، كما أنه هدم حوائط الشقة وأعاد بناءها ليغير من تصميمها الداخلي. ستغضب لأن المستأجر خالف شروط العقد، ولأن ما يفعله يدل على أنه يخطط للاستيلاء على شقتك والبقاء فيها الى الأبد. افترض أنك ذهبت الى محاميك وأرسلت إنذاراً بالطرد الى المستأجر لأنه خالف العقد، لكنك فوجئت بأن المستأجر يرسل اليك بصورة من عقد مزور لم توقعه يسمح له بأن يفعل ما يشاء في شقتك. هنا ستدرك أنك وقعت لسوء حظك في يد مستأجر كاذب يسعى للاستيلاء على شقتك بأي طريقة. عندئذ سوف تصر على خروجه من شقتك فوراً، لكنه سيلجأ الى العنف. عندما ذهب أصدقاؤك لإقناع المستأجر بترك الشقة خرج عليهم بلطجية، أطلقوا الرصاص فقتلوا بعضهم. المستأجر الكاذب المزور الآن تحول الى قاتل. لا يمكن أن تكتفي بطرده من شقتك بل ستطالب بمحاكمته بتهمة قتل الأبرياء. الغريب أن المستأجر، بعد أن ارتكب كل هذه الجرائم، سيبعث إليك بمن يدعوك للحوار معه، وهو يحاول إغراءك بأن يزيد الإيجار بضع جنيهات. ان الحق واضح قاطع في صفك ضد المستأجر القاتل الكاذب، لكنه للأسف يتظاهر بالورع ويصلي في المسجد مع زملاء له ملتحين يتعصبون له بشدة. هؤلاء يدافعون عنه بالحق وبالباطل ويبررون كل جرائمه. تدور بينك وبينهم حوارات عجيبة. يقول لك أحدهم مثلا:
– لماذا تكره الإسلام الى هذا الحد؟
– فترد عليه قائلاً: كيف أكره الإسلام وأنا مسلم!
– أنت تريد طرد صاحبنا من شقتك لمجرد أنه مسلم ملتزم.
– لو أنني أعاديه لأنه ملتزم كما تقول، لما وافقت على تأجيره الشقة من الأساس. ثم إن صاحبكم هذا ليس ملتزماً بالدين ولا يحزنون، وإنما هو شخص كاذب يقول دائماً ما لا يفعله، وينكث عهوده جميعاً. كما أنه قاتل مسؤول عن أرواح كثيرة أزهقت ظلماً.
– حتى لو كان ذلك صحيحاً فإنك، لو طالبت بطرده من شقتك تكون ضد الشرعية. من حقه أن يفعل ما يشاء فيك لمدة أربع سنوات.
– ليس معنى توقيعي معه لعقد لم يحترمه أن أتركه يقتل من يشاء. شرعية أي عقد مشروطة باحترام بنوده، وصاحبكم قد انتهك القانون وزوّر عقداً آخر باسمي، كما أنه قتل أبرياء ولا بد من محاكمته.
– يا ساتر. ما كل هذا الحقد على الإسلام الذي يأكل قلبك؟
– أنا سأطرد صاحبكم لأنه قتل وكذب وغش ونكث وعوده وليس لأنه ملتح منتظم في الصلاة.
– لماذا ترفض دعوة الحوار مع صاحبنا؟
– كيف أجلس للحوار مع صاحبكم وأنا أطالب بمحاكمته. ثم ماذا نقول في الحوار وكل ما أطلبه الآن أن يترك الشقة فوراً.
– ولماذا ترفض زيادة الإيجار التي يعرضها عليك؟
– لأنني لو قبلت زيادة الإيجار معنى ذلك انني أعترف بالأمر الواقع الذي فرضه صاحبكم بالكذب والقتل. لن أتغاضى عن حقوق الشهداء الذين قتلهم مقابل بضع جنيهات زيادة.
– أنت ترفض الحوار والصلح. أنت قطعاً ممول من الخارج لإثارة الفتن. هل أنت عميل للكنيسة أم للصهيونية العالمية؟
– لست عميلاً لأحد لكني أطالب بحقوقي.
– الإسلام قادم برغم أنفك. سيكون المسلمون أساتذة العالم كله وسوف ترى، مت بغيظك.
هذه القصة المتخيلة تبرز تناقضات الوضع في مصر الآن. لقد انتخب المصريون محمد مرسي وفقاً للقانون، لكنه استأثر بالحكم مع جماعته وعين نائباً عاماً تابعاً له ووضع نفسه وقراراته فوق القانون وحصن اللجنة التأسيسية الباطلة ومجلس الشورى الباطل، ثم فرض على المصريين دستوراً لا يعبر عنهم، ثم سمح بقتل عشرات المتظاهرين بخلاف مئات الأبرياء الذين تم تعذيبهم بطرق بشعة، بدءاً من الصعق بالكهرباء وحتى هتك أعراض الرجال واغتصابهم. المسؤول الأول جنائياً وسياسياً عن كل هذه الجرائم هو محمد مرسي. لقد فقد هذا الرئيس شرعيته بالإعلان الدستوري الذي يدهس به القانون، فقد شرعيته عندما سقط الشهداء برصاص الشرطة التابعة له. تسقط شرعية الرئيس (حتى لو كان منتخباً) بمجرد أن يعطل القانون ويقتل مواطنيه. المظاهرات تعم مصر الآن لتطالب بإسقاط الدستور الباطل الذي فرضه «الإخوان» على الشعب، وكتابة دستور يعبر عن إرادة الشعب، ثم إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. من حق مرسي عندئذ لو أراد أن يترشح لمنصب الرئاسة من جديد، ولكن بعد محاكمته على قتل وتعذيب المصريين.
إسقاط الدستور وانتخابات رئاسية مبكرة وإقالة النائب العام ومحاكمة القتلة، هذه مطالب ثورية واضحة لا يجوز الالتفاف عليها أو القبول بنصفها من دون نصفها. التاريخ يعلمنا أن القبول بأنصاف الحلول يقضي على أي ثورة. في وقت الثورة لا يجوز أن نمارس السياسة. السياسة والثورة نقيضان لا يجتمعان. السياسة مصالح والثورة مبادئ. السياسة فن الممكن والثورة حلم بالمستحيل. السياسة تحافظ على النظام القائم وتستعمله لخدمة مصالحها، والثورة تنسف النظام الفاسد من أساسه لتبني مكانه نظاماً عادلاً. لقد انتصرت الثورة المصرية خلال 18 يوماً لأنها حافظت على الحلم ولم تستبدل به الأمر الواقع. انتصرت لأنها طالبت برحيل مبارك ولم تقبل أنصاف الحلول التي عرضها مبارك ورفضت التفاوض معه أساساً. الحل الوسط يعني نهاية الثورة.
في تاريخ مصر لحظات كانت تمثل فرصاً حقيقية لبناء الديموقراطية لو تصرف من عاشوها بطريقة ثورية، لكنهم تصرفوا بمرونة سياسية كانت كفيلة بالقضاء على الفرص المتاحة. عندما نجحت ثورة 1919 وأجبرت بريطانيا على الاعتراف باستقلال مصر وحان وقت كتابة أول دستور بعد الثورة، طالب حزب الثورة (الوفد) بأن تكون اللجنة التأسيسية للدستور منتخبة، ورفض الملك فؤاد، لأنه يعرف أن اللجنة الوفدية المنتخبة سوف تقلص من صلاحيات الملك. عين الملك فؤاد لجنة لكتابة الدستور وكان بإمكان سعد زغلول أن يحشد المصريين ضد هذه اللجنة المعينة ويسقطها، ثم يرغم الملك على الاستجابة لمطلب الثورة، لكن الزعيم، لسبب ما، آثر المرونة السياسة على الموقف الثوري فاكتفى بإدانة اللجنة المعينة وأسماها لجنة الأشقياء. أصدرت هذه اللجنة دستور 23 الذي وضعت فيه مادة تبيح للملك تغيير الحكومة وحل البرلمان، وكانت النتيجة أن تم تفريغ الديموقراطية المصرية من محتواها لمدة ثلاثين عاماً، حكم خلالها حزب الأغلبية أقل من سبع سنوات.
مثل آخر، عندما قرر جمال عبد الناصر إلغاء الديموقراطية، كان «حزب الوفد» آنذاك لا زال محتفظاً بجماهيريته وقواعده في كل أنحاء مصر، وكان مصطفى النحاس زعيم الوفد قادراً تماماً على حشد الجماهير للدفاع عن الديموقراطية، لكن الزعيم النحاس مرة أخرى فضل المرونة السياسية على الفعل الثوري فانسحب ولزم بيته وظل يتفرج على عبد الناصر وهو يبني نظاماً استبدادياً أفضى بمصر الى كوارث لا زلنا ندفع ثمنها الى الآن (مع احترامي لوطنية عبد الناصر وإخلاصه).
واقعة ثالثة ضيعت علينا فيها المرونة السياسية فرصة الإصلاح: في أيلول العام 1981 أصدر أنور السادات قراراً باعتقال نحو ألف وخمسمئة من المعارضين لسياساته، وبعد ذلك بأسابيع اغتيل أنور السادات وتولى مبارك الرئاسة، فأفرج عن معتقلي «سبتمبر» واجتمع بهم بعد الإفراج عنهم في قصر العروبة. كانت هذه لحظة فارقة. معظم هؤلاء المعتقلين أسماء كبيرة لها تاريخ نضالي وقيمة وطنية كبرى، لو كانوا أصروا في لقائهم بمبارك على تنفيذ إصلاحات ديموقراطية حقيقية، لو أنهم رفضوا الإفراج عنهم إلا بعد تأسيس ديموقراطية حقيقية، لو حدث ذلك لاستجاب لهم مبارك غالباً، لأن الظروف آنذاك لم تكن تسمح له بالاستبداد بعد اغتيال السادات. على أن هؤلاء المفرج عنهم، مع احترامي الكامل لهم، فضلوا المرونة السياسية على الموقف الثوري فاجتمعوا بالرئيس مبارك اجتماعاً لطيفاً ظريفاً، اعتذر لهم أثناءه عن اعتقالهم، فشكروه بحرارة وتمنوا له التوفيق ثم انصرفوا الى منازلهم آمنين.
مثل هذه الأمثلة في تاريخنا بلا حصر. تأتي لحظة حاسمة تحتاج الى موقف ثوري فيتعامل معها من يعيشها بمرونة سياسية في غير موضعها وهكذا تضيع علينا فرصة تلو الأخرى. نحن الآن نمر بلحظة مماثلة. لقد أعاد «الإخوان» ترتيب الدولة بطريقة تبقيهم في السلطة الى الأبد وعذبوا الأبرياء وقتلوهم وهتكوا الأعراض ودهسوا القانون، ثم بعد أن أخذوا كل ما أرادوه من الثورة يبحثون الآن عن غطاء سياسي لجرائمهم. يريدون حوارات أمام الكاميرات ومعارضة شكلية في البرلمان. أخشى أن يستدرج قادة «جبهة الإنقاذ» الى هذا الفخ. أتحدث عن شخصيات كبيرة يحترمها الجميع كان لها دور مهم في الثورة، لكنها الآن تتعرض الى ضغوط داخلية وخارجية، وأخاف أن تنصاع لها، فتمارس المرونة السياسية بدلاً من موقف ثوري قاطع.
إن القبول بالحوار مع مرسي قبل محاكمته على القتل والتعذيب ليس إلا خذلاناً للثورة وتخلياً عن حقوق الشهداء. القبول بدخول انتخابات مجلس الشعب بقانون أصدره مجلس شورى باطل بناء على دستور باطل انما يكرس الوضع الدستوري الباطل الذي فرضه علينا «الإخوان». من يقبل بانتخابات مجلس الشعب سيكسب بضعة مقاعد لكنه سيضيع أهداف الثورة ويساعد «الإخوان» على تغطية جرائمهم. أي انتخابات هذه والسلطة التي تجريها تابعة لجماعة غير شرعية لا تخضع للقانون؟ أي انتخابات هذه و«الإخوان» والسلفيون ينفقون ملايين الجنيهات لشراء أصوات الفقراء، ونحن لا نعرف شيئاً عن ميزانياتهم ومصادر تمويلهم؟ أي انتخابات والشرطة تقتل المصريين في الشوارع وكأنهم حشرات لا معنى ولا قيمة لحياتهم؟ اني أتوجه الى أصدقائي في جبهة الإنقاذ بسؤال واحد: هل نريد الدولة الديموقراطية التي قامت من أجلها الثورة ومات من أجلها الشهداء، أم نريد بضعة مقاعد في البرلمان يمنحها الإخوان لنا من قبيل الإحسان؟ من يقبل بالحلول الوسط الآن يخذل المصريين ويساعد «الإخوان» على إجهاض الثورة والاستبداد بحكم مصر الى الأبد… الثورة مستمرة حتى تحقق أهدافها جميعاً.
الديموقراطية هي الحل.

صحيفة المصري اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى