جملة اعتراضية| فلنستمع إليهم هذه المرة (علاء الأسواني)
علاء الأسواني
في كل «مترو» عربة مخصصة للسيدات غير مسموح للرجال بدخولها، لكن بعض الرجال يخالفون القانون ويستعملون عربة السيدات. حدث مرة أن اعترضت شابة على ركوب الرجال في عربة السيدات وأصرّت على نزولهم، حاول الرجال إسكاتها لكنها اتجهت الى باب العربة ومنعت إغلاقه بيديها ما أدى الى توقف «المترو» الذي لا يتحرك حتى تغلق الأبواب جميعاً. حاول الرجال جذب الفتاة بعيداً عن الباب لكنها تشبثت به، عندئذ حاول أحدهم ضربها، لكن بضع شابات في سنها دافعن عنها ورحن يطلبن من الرجال مغادرة العربة، وأخيراً ظهر مسؤول «المترو» فانحاز للرجال وحاول إقناع البنات بتقبل الأمر، لكنهن رفضن تماماً، ما اضطره في النهاية الى إنزال الرجال من العربة وانطلق «المترو» بعد ان انتصرت البنات وانتزعن حقهن بأيديهن. هنا بدأت السيدات الأكبر سناً في توجيه اللوم للبنات، وتعاقبت تعليقاتهن الساخرة من نوع:
ـ استفدنا إحنا إيه من وجع الدماغ ده كله غير التعطيل؟
ـ أنتم عاوزين الكون يمشي على مزاجكم؟
عندما وجد مسؤول «المترو» أن الرأي العام بين السيدات ضد ما فعلته البنات، سمح في المحطة التالية بدخول الرجال ثم نزل من العربة ليعود كل شيء كما كان.
هذه الواقعة حدثت منذ أيام وهي تحمل دلالات مهمة. فهناك الرجال المتبلدون الذين لا يحترمون القانون إلا إذا خافوا من العقاب، وهم بالإضافة الى همجيتهم وأنانيتهم يحملون احتقاراً عميقاً للمرأة، فلا مانع عندهم من الاعتداء باللفظ واليد على من تطالب بحقها. وهناك الادارة الحكومية البليدة التي ورثناها من عصر مبارك متمثلة في مسؤول «المترو» المهمل الذي يحمل ثقافة رجعية تجعله ينحاز للرجال ضد المرأة حتى لو كان الحق معها. أما الأهم، فهو التناقض في السلوك بين الشابات والسيدات اللاتي يكبرنهن سناً.
البنات قررن أن يأخذن حقوقهن بأيديهن وخضن المعركة ببسالة حتى انتصرن، أما السيدات الكبيرات فهن غارقات تماماً في شؤونهن الخاصة وليس لديهن فائض طاقة للاهتمام بمثل هذه المعارك، وقد امتنعن عن مساندة البنات في موقفهن، فكانت النتيجة أن عاد كل شيء الى حاله.
البنات ينتمين الى جيل الثورة والسيدات ينتمين الى جيل الكبار والفرق بين الجيلين شاسع.. أعرف أن التعميم خطأ، فهناك شيوخ كثيرون لا يقلون عن الشباب في حماسهم للحق، كما أنني لا أعادي جيل الكبار الذي أنتمي اليه بحكم السن، ولا أظن أن الآباء يزعجهم أن نمدح أبناءهم، لكن الواقع أن في مصر جيلين مختلفين تماماً في الرؤية والثقافة والمشاعر والسلوك .. الكبار عاشوا وتزوجوا وأنجبوا تحت وطأة نظام مبارك الفاسد الاستبدادي ولم يفكروا قط في الثورة ضده. تعلموا كيف يتواءمون مع الواقع حتى تستمر الحياة. كان أمامهم اختيارات ثلاثة: الانسحاق أو الفساد أو الهرب. إما أن يستسلموا لمعاناتهم أو يتحولوا الى فاسدين أو يهاجروا الى الخليج، حيث يعملون تحت وصاية كفيل كثيراً ما يتحملون غطرسته واستيلاءه على حقوقهم حتى يعودوا الى مصر بمبلغ من المال يكفيهم شر العوز. الكبار لم يتمردوا ولم يحتجوا. كان العمل بالسياسة بالنسبة اليهم قمة الحماقة وكانت نصيحتهم لأولادهم أن يبتعدوا عن السياسة ويمشوا جنب الحائط، ويستذكروا ويتخرجوا، ليحصلوا على عقد عمل في الخليج يكفل لهم الثروة. الكبار نادراً ما اهتموا بالشؤون العامة، وكانوا دائماً نموذجاً للمواطن المنكفئ على ذاته الذي ينحصر اهتمامه في بيته وأسرته، الذي لا يذهب ابداً للإدلاء بصوته في الانتخابات لكنه يأخذ إجازة من عمله حتى يكون بجوار ابنته في الإعدادية، الذي يحرص على نظافة شقته، لكنه يلقي بالقمامة في منور العمارة، لأن أي مكان خارج نطاق شقته لا يعنيه، الذي ينظم جمعيات مع زملائه في العمل حتى يقبض مبلغاً محترماً، لكنه يتهرب دائماً من دفع أية مصاريف في العمارة التي يسكنها. جيل الكبار كان منزوع الوعي السياسي عاجزاً عن العمل الجماعي لا يعرف من النضال سوى أكل العيش. كان من الطبيعي أن ينجب الكبار أبناءً يشبهونهم.
كل الدلائل كانت تؤكد أن جيل الشباب سيكون أسوأ بكثير من الآباء، فقد نشأوا في واقع قبيح وعشوائي بلا مشروع قومي ولا قدوة ولا إعلام محترم ولا تعليم جيد، ثم جاءت «ثورة يناير» فظهر جيل من الشباب كان بمثابة الطفرة، الطفرة في علم الأحياء جيل من الكائنات يكتسب على غير توقع خصائص جديدة لم تكن موجودة في الأجيال السابقة. رفض هؤلاء الشباب أن يتواءموا مع الفساد ورفضوا الهجرة وقرروا أن يغيروا الوطن بأيديهم. كان الشباب يحملون ثقافة مختلفة عن آبائهم. إن دائرة انتمائهم أوسع بكثير من الأسرة وهم يهتمون بالسياسة ويعتبرون أن الإصلاح يبدأ بتغيير النظام وأن الدولة الديموقراطية هي طريق التقدم. إنهم لا يعتبرون الإذعان حكمة ولا الجبن عين العقل. الآباء الذين يخافون من دخول أقسام الشرطة أنجبوا أبناء رأيناهم أثناء الثورة يقفون أمام مدرعات تطلق عليهم الرصاص فلا يتراجعون ولا يهتزون. الآباء الذين عاشوا يتمنون رضى الرؤساء وصداقة الكفيل، أنجبوا أبناء أجبروا حسني مبارك على ترك السلطة، ثم أجبروا المجلس العسكري على إحالته للمحاكمة وإلقائه في السجن. إنها معجزة مصر التي تأبى الا أن تنقل خصائصها الحضارية ليحفظها جيل جديد. 60 في المئة من المصريين أعمارهم أقل من 29 عاماً، ما يعني أن الشباب يشكل الأغلبية، لكن الكبار لا زالوا يتحكمون في كل شيء. الشباب يثورون ويموتون بالرصاص ويفقدون عيونهم بالخرطوش، لكن الكبار هم من يحصدون ثمرات تضحيات الشباب فيصلون الى سلطة لم يفعلوا أي شيء لكي يستحقوها. ثم هم في السلطة يتنكرون لمبادئهم ويتحولون الى موظفين يضعون أنفسهم ملك يمين فخامة الرئيس.
على مدى ثلاثة أعوام كان الشباب يحذرون من عواقب أشياء تحدث فيسخر منهم الكبار ثم يكتشفون أنهم على حق بعد فوات الأوان. الشباب رؤيتهم واضحة وهم يرفضون الحلول الوسط والكبار متمرسون في قبول الحلول الوسط حتى تسير العجلة. بالطبع ارتكب الشباب أخطاء، لكنهم كانوا دائماً يفهمون ما يحدث على نحو صحيح، بينما يغوص الكبار في تهاويم النظريات أو تمنعهم شهوة المناصب من قول الحقيقة. الشباب يرفضون أي تنازل عن مبادئ الثورة بينما الكبار يساومون دائماً ويقبلون أنصاف الحقوق فتضيع الحقوق كلها. الكبار قبلوا إعطاء مبارك فرصة ستة أشهر، لكن الشباب أصروا على رحيله ولولا إصرارهم لما رحل. طالب الشباب بمجلس رئاسي بدلا من المجلس العسكري وقبل الآباء حكم المجلس العسكري ودفعت مصر كلها ثمن فشله الذريع. حذر الشباب من أن المجلس العسكري يقود الثورة المضادة فلم يصدقهم الآباء، وتحمل الأبناء مذابح عديدة دافعوا أثناءها ببسالة عن الثورة ومنعوا إجهاضها، بينما راح الآباء يلقون باللوم على الضحايا وينكرون جرائم رأوها بعيونهم، لأنهم لا يتخيلون حياتهم اذا حرمهم المجلس العسكري من رضاه. ثم تولى «الاخوان» الحكم وأسفروا عن وجههم القبيح، فراح الآباء يلعنون الثورة ويصرحون بحنينهم لعهد مبارك، لأنه مهما نهبهم وأذلهم وأفقرهم كان يوفر لهم الأمن والاستقرار. أما الشباب فقد قرروا خلع مرسي كما خلعوا مبارك، وشكلوا «حركة تمرد» التي نجحت في جمع ملايين التوقيعات ثم احتشد الشعب يوم «30 يونيو» وانحاز الجيش للشعب وأزاح «الاخوان»، ثم ظهرت فلول نظام مبارك لتتصدر المشهد. وبدأت حملة قمع الحريات وتوالت الملاحقات الأمنية لشباب الثورة وتم إلقاؤهم في السجون.
هنا تجاهل الآباء الممارسات القمعية لأنهم تربوا على شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وحيث أن الدولة تحارب الإرهاب فمن حقها في رأيهم أن تفعل بالمواطنين ما تشاء، أما الشباب فقد رفضوا هذا المنطق وأكدوا أن الحرب على الإرهاب لا تبرر قمع الأبرياء، ثم بدا أن المشير السيسي هو رئيس مصر، القادم فهلل الكبار وانهمكوا في صناعة فرعون جديد، تماماً كما فعلوا مع كل مَن حكم مصر. أما الشباب فقالوا إن السيسي قام بعمل بطولي وهو عسكري شجاع لكنهم لن يوقعوا على بياض لأي شخص، وطالبوا بانتخابات ديموقراطية يتساوى فيها السيسي مع بقية المرشحين في الحقوق وفرص الدعاية، وطالبوا بأن يعلن المشير السيسي عن ثروته مثل بقية المرشحين، وهنا انطلقت حملة إعلامية مسعورة ضد كل من يطالب بانتخابات نزيهة يتساوى فيها السيسي مع الآخرين، وامتد الأذى ليلحق كل من يفكر في الترشح لمنافسة السيسي، حيث يتم في التلفزيون التشهير به وإهانته والسخرية منه. بعض وسائل الإعلام مملوكة لرجال أعمال من رموز نظام مبارك وهم متمسكون بترشيح السيسي لأنهم يعتقدون أنه لن يحاسبهم على جرائمهم وثرواتهم المنهوبة من الشعب، وإعلام الحكومة لا يعرف إلا تمجيد الرئيس والإشادة بحكمته وعبقريته. بالإضافة الى حملة من إعلاميين معروفين بعلاقتهم الوثيقة بضباط أمن الدولة يتم فيها انتهاك أعراض الناس في التلفزيون بإذاعة تسجيلات خاصة لا يعرف أحد مدى صحتها بغرض التشهير بالشباب الذي غير مصر كلها بشجاعته بينما كان هؤلاء الاعلاميون يتمنون مجرد ابتسامة من سوزان مبارك ويرتجفون رعباً أمام جمال مبارك.
الحملة خارجة عن الأخلاق والقانون وقد أدانها رئيس الوزراء الشرفي حازم الببلاوي لكنها استمرت، مما يدل على أن من يقف وراء الحملة أقوى من الببلاوي بكثير. الشباب الآن يرفضون كل ما يحدث في مصر. هناك إشارات لا يمكن تجاهلها بعد الآن تؤكد أن أجهزة الأمن استأنفت عادتها القديمة في قمع الأبرياء وتلفيق التهم لهم. عاد «ترزية» القوانين الى عملهم فأخرجوا لنا قانون التظاهر لتحبس به السلطة كل من يجرؤ على التعبير عن رأيه، وتتم الآن عملية تجميل للمحاكم العسكرية التي ستستأنف نشاطها في التنكيل بالمعارضين قريباً، وفي الطريق الينا قانون الإرهاب، هراوة جديدة ستسحق بها السلطة كل من لا يعجبها.
فلول نظام مبارك صاروا يتصدرون الوفود والاجتماعات، بينما الهجمة ضد حرية التعبير تزداد شراسة بدءاً من القبض على الصحافيين والتنكيل بهم، وحتى منع مقال الأستاذ بلال فضل في جريدة «الشروق»، لأنه جرؤ على توجيه النقد للمشير السيسي.
الشباب غاضبون وهم يستريبون في نيات السلطة الحالية ويطالبون بضمانات حقيقية تحمي النظام الديموقراطي عندما يتولى المشير السيسي رئاسة الجمهورية، وهم يرفضون إقامة ديكتاتورية جديدة مهما كان قدر من يصنعها.. فلنستمع الى الشباب هذه المرة. فقد كانوا دائماً على حق.
الديموقراطية هي الحل