جملة اعتراضية | ماذا نصنع في الدم؟ (علاء الاسواني)

علاء الاسواني

 

لا مانع لدى «الإخوان» في مصر من التبرع ببعض المقاعد لمعارضة شكلية حتى تكتمل مسرحية الديموقراطية الزائفة، فما قيمة انتخابات تجري طبقاً لقانون باطل أصدره مجلس شورى باطل، وفقاً لدستور باطل، أنتجته لجنة تأسيسية باطلـة
في العام الماضي، تلقيت دعوة لحضور الاحتفال بعيد الميلاد المجيد في كنيسة قصر الدوبارة. هذه الكنيسة لعبت دوراً عظيماً في الثورة. أقامت مستشفى للمصابين وجمعت تبرعات وتصرف المسؤولون فيها بشجاعة نادرة لحماية الثوار من القتل والاعتقال. دخلت الى القاعة فوجدت مجموعة من الشخصيات التي ارتبطت بالثورة. جاء مكاني خلف الدكتور أحمد حرارة ووالدته. وهو طبيب أسنان شاب من أسرة ميسورة، تخرج في كلية طب الأسنان وافتتح عيادة خاصة. كانت حياته على ما يرام وكان بإمكانه، مثل أطباء كثيرين، أن يسافر للعمل في بلد خليجي فيكسب ثروة طائلة، لكنه آمن بالثورة واشترك فيها، وفي جمعة الغضب أصابه ضابط شرطة بطلق خرطوش في عينه ففقدها. كان بإمكان حرارة أن يكتفي بهذه التضحية لكي يكون أحد أبطال الثورة، لكنه ظل بعد أن فقد عينه يشارك بالحماس ذاته في المظاهرات حتى كانت أحداث محمد محمود، فأصيب في عينه السليمة وفقدها ليصبح كفيفاً. سافر حرارة الى فرنسا حيث أخبره الأطباء بأن الأمل شبه منعدم في علاج عينيه.
الثمن الباهظ الذي دفعه البطل حرارة لم يصبه بالإحباط.. اذا أردتَ أن تتأكد أن هذه الثورة ستنتصر يكفي أن تجلس لمدة دقائق مع حرارة. لا يمكن أن تنهزم ثورة يضحي فيها شاب بعينيه ومهنته ويحتفظ مع ذلك بإيمانه بالثورة وتفاؤله.
جلست خلف حرارة ووالدته. كانت والدته تضع يدها على كتفه وتنقل اليه ما يحدث حوله. كانت تخبره عن شكل القاعة وتحركات الناس وعندما يأتي أحد لتحيته تهمس في أذنه باسم من يحدثه. فكرت أن ما تفعله هذه الأم مع ابنها قد فعلته لسنوات طويلة. إنها الآن تنقل إليه ما لا يراه بنفس الحنان الذي كانت تعتني به وهو طفل وتسهر بجواره اذا مرض، تهمس اليه الآن بنفس الرقة التي كانت تعدّ بها العشاء وهو يستذكر. فكرت في فرحتها بمجموعه المرتفع في الثانوية العامة، وزهوها لما التحق بكلية طب الأسنان، وسعادتها لما زارته لأول مرة في عيادته. ها هي في النهاية تعود الى نقطة البدء فتحتضنه وتحكي له ما لا يراه تماماً كما كانت تهدهده وهو طفل. حرارة ومالك مصطفى وكثيرون غيرهم، أبطال حقيقيون فقدوا عيونهم حتى ترى بلادهم نور المستقبل. الأمهات دفعن الثمن الأكبر في هذه الثورة.
أقف دائماً مبهوراً أمام أمهات الشهداء. حزن الأم على ابنها الشهيد لا يمكن وصفه بالكلمات. اذا استشهد صديق لك ستحزن من أجله، أما أمه فإنها لن تحزن وإنما ستموت. ستموت كل يوم عندما يحين موعد عودة ابنها ولا يعود. ستموت كلما رأت ملابسه وكتبه ودخلت الى حجرته، كلما قابلت أصدقاءه وكلما صنعت طعاما تعرف أنه يحبه. أمهات الشهداء جميعاً لهن سمت واحد، طابع ما، حالة تتجاوز ما نعرفه عن الحزن. كأن الفجيعة نقلتهن الى عالم آخر. كأنهن يعشن وسطنا لكنهن صرن ينتمين الى دنيا أخرى ليس بإمكاننا أن ندركها. كثيرا ما رأيت أم الشهيد تتحدث عنه وكأنه لم يمت. والدة محمد الجندي ظهرت في التلفزيون وراحت تفخر بإتقانه لثلاث لغات وحكت بالتفصيل كيف يصر على أن تأكل معه الحلويات مع أنها مصابة بالسكر. مرة قالت لي أم شهيد بلهجة هادئة محايدة:
ــ الحمد لله أني كفنته ودفنته بيدي. كنت أول من استقبله في الدنيا وآخر من ودعه.
أثناء اعتصام سعد زغلول في الاسكندرية اقتربت مني سيدة متشحة بالسواد وقالت لي:
ــ أنا والدة أميرة أصغر شهداء الاسكندرية. «أميرة عندها 13 سنة كانت واقفة جنبي في «البلكونة» ولما لقت الضابط بيقتل المتظاهرين طلعت التليفون وبدأت تصور. الضابط شافها قام ضربها رصاصة في دماغها.. كان ممكن يأخذ منها التليفون بدل ما يقتلها».
لم أجد ما أقوله لها. كل كلمات التعازي التقليدية تبدو بلا معنى أمام أم فقدت ابنتها. الضابط الذي قتل أميرة حصل على حكم بالبراءة وتمت ترقيته فصار يأخذ ثلاثة أضعاف مرتبه. حتى الآن لا أحد يعرف عدد شهداء الثورة بالضبط. أرقام وزارة الصحة كاذبة والمستشفيات تستجيب لضغط الأمن فتكتب تقارير وهمية حتى تبرئ القتلة، والطب الشرعي موال للحكومة كما عرفناه في قضية الشهيد خالد سعيد. في التقديرات غير الرسمية يقترب عدد الشهداء من ثلاثة آلاف بالإضافة الى ألفي مفقود (غالباً استشهدوا ودفنوا سراً في أماكن مجهولة) بخلاف 18 ألف مصاب. كان هذا الثمن الذي دفعته مصر للتخلص من مبارك. تنحى مبارك لكن القتل استمر. ارتكب المجلس العسكري مذابح عديدة راح ضحيتها مئات الشهداء، ثم ذهب المجلس العسكري وتولى «الإخوان» الحكم فاستمروا في القتل. محمد مرسي، الذي يقدم نفسه كرئيس إسلامي ورع، ضرب رقماً قياسياً في قتل المصريين بواسطة وزير داخليته الجلاد. خلال شهر واحد سقط ما يقرب من سبعين شهيداً، ولأول مرة في تاريخ مصر يُطلق الرصاص على جنازة الشهداء في بورسعيد فسقط مشيعو الشهداء شهداء مثلهم. شباب الثورة يتم خطفهم وتعذيبهم ببشاعة أو قتلهم وإلقاؤهم في الشارع طبقاً لمخطط واضح لتصفية كل من يؤدي دوراً فعالا في كشف جرائم «الإخوان». في أي بلد في العالم اذا قتل الرئيس مواطنيه يفقد شرعيته فوراً ويحاكم حتى لو كان منتخباً مئة مرة، لكننا في مصر لدينا من لا يزال يعتبر مرسي رئيساً شرعياً كأن من قتلهم ذباب أو صراصير لا قيمة ولا معنى لحياتهم.
الإسلام عند شباب «الإخوان» يتمثل في المرشد، سيؤيدونه بحماس لو قتل الشعب كله. المشهد في مصر الآن أوضح من أي وقت مضى: رئيس تم انتخابه ثم تحول الى ديكتاتور وقرر، بتعليمات المرشد، أن يستولي على الحكم الى الأبد. بدأ بكتابة دستور بواسطة لجنة غير شرعية حصنها بنفسه حتى لا يبطلها القضاء، ثم عين نائباً عاماً موالياً، يتهمه أعضاء النيابة بالتدخل لصالح «الإخوان»، ثم حصن مجلس الشورى الباطل حتى لا يقضي القضاء بحله، وأحال مجلس الشورى الى سلطة تشريعية، برغم أنه منتخب من 7 في المئة من المواطنين، واستصدر منه كل القوانين الكفيلة بإبقاء «الإخوان» في السلطة.
منذ البداية، تواطأ «الإخوان» ضد الثورة مع المجلس العسكري في صفقة تبادل منافع، يسمح لهم العسكر بالانتخابات قبل الدستور ويتجاهلون شراءهم لأصوات الفقراء حتى يفرضوا الدستور الذي يريده «المرشد»، وفي المقابل يحافظ المجلس العسكري بموجب دستور «الإخوان» على امتيازات أعضائه وثرواتهم الطائلة، وتتم حمايتهم من المحاسبة على الأرواح التي أزهقوها. فعل «الإخوان» ما أرادوه وحصلوا على ما طلبوه. كل ما ينقصهم الآن الإطار الفارغ الذي يمنح شرعية لجرائمهم. كان مبارك حاكماً استبدادياً يتحكم في الدولة المصرية كما يشاء، لكنه كان يغطي استبداده بمسرحية سخيفة صاخبة. مجلس شعب ومجلس شورى ومناقشات وكلام وشعارات حتى يبدو الشكل ديموقراطياً، بينما السلطة في يد مبارك وحده. الآن يتبع «الإخوان» طريقة مبارك. بعد أن فرضوا دستورهم وقوانينهم والنائب العام الخاص بهم وعطلوا القضاء، سوف يجرون انتخابات يشكلون بها مجلس الشعب بأغلبية تمكنهم من السيطرة عليه، ولا مانع من التبرع ببعض المقاعد لمعارضة شكلية حتى تكتمل مسرحية الديموقراطية الزائفة. ما قيمة انتخابات تجري طبقا لقانون باطل أصدره مجلس شورى باطل، وفقاً لدستور باطل، أنتجته لجنة تأسيسية باطلة؟ أي شرعية لانتخابات تجري في ظل سلطة تسيطر عليها جماعة غير قانونية، تمويلها مجهول المصدر وتحت اشراف رئيس مسؤول عن قتل وتعذيب مواطنيه؟ من يوالي «الإخوان» ويتغاضى عن جرائمهم ويشترك في انتخاباتهم، هل يحق له بعد ذلك أن يطالب بإسقاط الدستور الباطل اذا كان قد حصل بموجبه على مقعد في البرلمان؟ سيقول بعض الناس طبعاً، إنهم سيشتركون في الانتخابات حتى لا يتركوها لـ«الإخوان» وحتى يكشفوا التزوير وحتى ينقلوا صوت الثورة في البرلمان. كلها تبريرات خائبة تعكس تفكيراً ساذجاً أو أطماعاً سياسية تافهة لا تليق باللحظة الفارقة التي تمر بها مصر.
الحقيقة ساطعة: كل من يشترك في هذه الانتخابات يخون الثورة ويضيع حق الشهداء ويمكن «الإخوان» من تغطية جرائمهم ويضفي شرعية على رئيس قتل مواطنيه وعطل القانون لصالح جماعته. المطلوب إسقاط الدستور وإقالة النائب العام غير الشرعي وانتخابات رئاسية مبكرة ومحاكمة عادلة للمسؤولين عن قتل الشهداء، وأولهم مرسي نفسه، والجلاد محمد ابراهيم وزير الداخلية. هذه مطالب الثورة الواضحة التي يحتشد ملايين الناس في كل أنحاء مصر من أجل تحقيقها، وهي تتعارض تماماً مع الاشتراك في انتخابات يجريها نظام قاتل وغير شرعي. لن تحقق الثورة أهدافها بصفقات مع القتلة، وإنما الطريق الصحيح هو ما يفعله أهل بورسعيد الآن. إضراب عام يؤدي الى عصيان مدني سلمي يجعل من سيطرة «الإخوان» على الدولة مستحيلة، عندئذ سيضطرون رغماً عنهم الى تلبية مطالب الشعب. «الإخوان» لديهم مجموعات من القتلة تنتمي اليهم أو الى الشرطة. بمقدورهم دائماً أن يقتلوا من يعارضهم لكنهم لن يستطيعوا أبداً مواجهة العصيان المدني. لن يستطيعوا أن يعتقلوا ملايين المصريين اذا قرروا الامتناع عن العمل. فكرة العصيان تصيب «الإخوان» بالرعب. سقط أربعون شهيداً في بورسعيد خلال يومين فقط، وبرغم ذلك خرج مرسي ليشكر القتلة ويهدد الضحايا بالمزيد من القتل، لكنه في اليوم الأول للعصيان المدني سارع بإعادة المنطقة الحرة لبورسعيد في محاولة مؤسفة لرشوة أهل المدينة. يتخيل مرسي أن أهل بورسعيد سينسون دماء أبنائهم مقابل أموال المنطقة الحرة. العصيان المدني حق قانوني للمصريين يكفله القانون والمعاهدات الدولية التي وقعتها الحكومات المصرية. واجبنا أن نقاطع هذه الانتخابات لأنها ملطخة بدماء جيكا والحسيني وكريستي والجندي والشافعي، وغيرهم من الشهداء الذين ضحوا بحياتهم حتى نعيش نحن في دولة عصرية ديموقراطية تحترم آدمية مواطنيها وترعى حقوقهم. الدم سوف يعلق بيد كل من يشترك في هذه الانتخابات الباطلة. فلنقاطع الانتخابات وننضم الى العصيان المدني حتى تتحرر مصر من قبضة القتلة. الثورة مستمرة حتى تحقق أهدافها بإذن الله.
الديموقراطية هي الحل

صحيفة المصري اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى