جودت فخر الدين الشاعر يقلِّبُ المعنى في حديقة الستين

محمد مظلوم

ما بين احتفاء أحمد الصافي النجفي بالتاريخ الشعري للروح في بيتيه الشعريين: سِنِّي برُوحي لا بِعَدِّ سِنينِ/ فلأسخرنَّ غَداً من التِّسْعِيْنِ/عُمري إلى السَّبعيْنِ يركضُ مُسرِعاً/والرُّوحُ ثابتةٌ على العِشْرينِ». وبين التجهُّم الوجداني والسأم من أعباء الحياة على امتداد الزمن في بيت زهير بن أبي سلمى المشهور: «سَئمتُ تَكاليفَ الحياةِ وَمنْ يَعِشْ/ ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لكَ يَسأَمِ».
يبدو الشعور بالزمن لدى جودت فخر الدين متأرجحاً ما بين هذين الحدَّين في ديوانه الجديد «حديقة الستين-دار رياض الريس». وهذا التأرجح متأت من تأرجح الزمن نفسه وهو ما يشكل سمة ظاهرة في عموم تجربة هذا الشاعر معبراً عنها في عناوين أغلب دواوينه: «للرؤية وقت» «أيام ومياه وأصوات» «ليس بعدُ» ومختاراته الشعرية «بين عُمْر وآخر» وصولاً إلى «حديقة الستين»،
ذلك أنه ناجم عن كونه زمناً ذا بعدٍ شخصيٍّ في مواجهة المكان العام والمشترك، فهو «الديمومة» المختلفة والمنشقة والمشغولة بفكرة الخلود، مقابل الموقت والزائل، وهو العزيمة على استخلاص الذات وخلاصها من براثن المحيط، والبرهة الخاصة الْمُقتنَصة من الزمن الفيزيائي العام: « ترى كمْ برهةٍ سقطتْ من الأيَّامِ/ كَي أحْيا كَثيراً/ هكذا في بُرهةٍ خارجَ الأيَّام» وعلى رغم مما يوحي به زمنه الشعوري من استرخاء في مجاراته الظاهرية للمكان، إلا أنَّه محتدم في الداخل، فيستلَّه برفق ويسكبه في القصيدة.

وديوانه، على وفق هذا، أقرب إلى الاحتفاء بالعمر الشاعري منه إلى السأم من تتالي السنوات، فالسأم يأتي من أشياء أخرى في المكان لا من الزمن الشخصي، فهو يكتب هنا عن الحب، ويحاور الطبيعة الأرضية، متداخلةً مع الغيم والسماء في المكان الشاعري القديم، ومنحسرةً ويائسةً في مكان آخر هو المدينة الحديثة، ويأنس إلى استحضار التاريخ والذهاب إليه بهمَّة مصاحباً أبطاله، وفوق هذا كلِّه يخرق عاداته الشعرية التي استغرقت عقوداً من تجربته، فصاحب «أقصِّرُ عن حبِّك» الذي دأب على كتابة قصيدة التفعيلة خياراً شعرياً ملازماً لتجربته الشعرية، نراه «يرتكب» كتابة قصيدة النثر وهو يتمهل باجتياز قنطرة الستين، بينما لم تستهوه تلك المغامرة عندما كان في اندفاعات العشرين ووثوبها.

والواقع أن شعر جودت انفصل منذ وقت مبكر عن جاذبية الضجيج، بمعانيه المختلفة سواء في الافتراق عن فكرة الجوقة والصوت المشترك، أو الانبهار البلاغي المتطرف والصخب الإيقاعي المنفرد.
والنجاة من الضجيج بأنواعه هذه لهو شيء لافت، في بلد مثل لبنان مُستقطبٍ لمثل هذا الضجيج وصانع له. فنراه يحمد ثِقَلَ الأُذن لأنه يجعله يسمع ما يريد فحسب! فيصغي للصور ويستغني عن الضجيج: قصيدة «صورة الصوت»: «سمعي وإنْ خفَّ قليلاً صار كالمصفاةِ / باتَ أنقى». وفي ما يمكن تسميته دراما الريف والمدينة، هو شاعر ريف، ليس لأن قاموسه الشعري يحفل بالأشجار والمياه والسماوات القريبة، بل لأنَّ الريف معادل للبراءة، والمدينة معادل للحرب في شعره، والطبيعة فيها يائسة وحزينة ومحض ديكور… قصيدة: «نباتات الشرفة».

تتألف حديقة «حديقة الستين» من تسعة مقاطع، يرسم فيها ملامح لحديقة تجمع بين الواقعية والرمزية، فهي ليست حديقة عامة، بل شخصية، إنها حديقته هو، وكل ما فيها على علاقة وطيدة بسيرته. فيرسم لنا أرجاءها الخارجية بدقة قبل أن ينصرف إلى داخله الشعوري الذي سيترقرق في قصائد الديوان اللاحقة: الأب وقبره، الزوجة بمرضها الخطير الذي تتغلَّب عليه بشكيمة الحياة، الأبنة المسافرة، في مقاربة لمشكلة هجرة الجيل الجديد، ذكريات الطفولة… الخ..
وعدا عن هذا الشأن الشخصي/العائلي لا يبدو فخر الدين منشغلاً كثيراً بالآخرين، فالآخرون «غُبارُ الْمَسيرة منِّي إليَّ» كما يقول في أول مقاطع القصيدة المعنون «نجاة» لتصل المسيرة الناجية إلى جلسة على مقعد في تلك الحديقة لمراجعة الماضي الشخصي والتاريخ العام، لكن «مقعد الشمس» فارغ في هذه الحقبة من العمر، جلست عليه الرطوبة وربما البرد. وبعد أن كانت الأرض كلَّها حديقة فإنها: «انكمشت كبستان الخريف» وبقي منها قبر الأب وهنا يخلق حواراً مع الغياب.
ولأنَّ الفصول تموت على الأرض فإنه ينظر دائماً إلى الأعلى والبعيد، فيرى الأشجار تموت أيضاً والسماء شاهدة أبدية على ذلك الموت: «لا تنفكُّ تحدِّقُ حارسةً موتَ الأشجار» ويعود إلى «البيت» الذي هو قلب الحديقة، أو هو ما تبقى منها، فهل الحديقة رمز للجنَّة الضائعة؟ وآدم مطرود منها مرَّة وآبقٌ مرَّاتٍ؟ ألهذا يحاول صاحب «أوهام ريفية» أن يغير من مسار الهروب الأبدي بعودته إلى تلك الحديقة، بمناورة شعرية، عن طريق البيت حيث لمحة رومانسية واستعادة لعالم مضى ولن يعود.
الخوف لدى صاحب «قصائد خائفة» لا يزال مصاحباً له، إلا إنه لم يعد وسواساً أو فوبيا فقد روَّضته تجربة الوصول إلى الستين تقريباً، فجعلته صحبة أليفة! ولم يبق منه سوى صورته التي لا تقهر: الموت، وهنا يجعله القرين والمسافة بينه وبين الحبيبة، فيصبح الحب واحدة من حيل الإنسان لمواجهة الموت والفناء.

أما الحزن فواحدة من العلامات الفنية في الديوان معبر عنه بقدر واضح من «الفروسيِّة» هي ليست فروسية الخيول والسيوف، وإنما اعتصام الروح بفكرتها، إزاء انكشاف العالم من حولها على مشاهد لا تسر، حزن هو أقرب إلى «الأسى السيَّابي الشفيف» يظهر بجلاء في قصيدة «لم تدعني السماء وشأني» إنَّه ترجيع «الشقشقة» في السيرة لكنها شقشقة بغضب أقلَّ،
وهنا يظهر السأم مما هو عام ومشترك: «سئمت البلاد الحدود» في مقابل زهدٌ بكل ما يتنافس عليه الآخرون، واعتداد بخيارات الذات وسط عالم يتنازع فيه الجميع: الهروب والنجاة، الهاوية والخلاص، الثقة والخجل، اليقين والريبة: «لي القَفْرُ مُبتسماً لي كهاويةٍ شاسعة/وأنا واضحٌ فوقَهُ كالطريدةِ في عين قنَّاصِها/ حائرٌ كمصادفةٍ لامعة»
وتقوم قصيدة «لم أخاطب سوى الليل في حضرموت» على الحوار بين التاريخ والحاضر، والتنويع على ليل امرئ القيس الممتد إلى اللحظة الراهنة، واستعادة للسيل الذي أودى بالمدن القديمة، وانهيار المدن الجديدة تحت سيول أخرى: أقول إذاً حضرموت وأقصدُ كلَّ البلادَ التي باتَ يوثقُها الليلُ
جودت فخر الدين شاعر معنى بامتياز، لكن دون تضحية بالصورة الشعرية، وإن غلب عليها التشكيل الذهني أحياناً، أعني أن المعنى لديه مزدوج ومتشابك فهو ليس معنى لغوياً فحسب، وإنما هو وجودي أيضاً إنه روح القصيدة لديه. فبينما تكتمل معانيه اللغوية لتغدو تامة الوضوح وفائقة التوصيل،
فإن معانيه الوجودية تبقى قلقة وحائرة وباحثة، ذلك أن معانيه الشخصية متعارضة مع فوضى الغموض من حوله، ومن هنا شعريَّة المعنى وتشابكه بما قد يفوق صوره الشعرية. وحين يستعير عبارة الخليل بن أحمد الفراهيدي «معنى كل شيء محنته» لتقديم قصيدة «داءٌ هو المعنى»، فإنه يحاول تقليب بالمعنى على أكثر من وجه، لكن تكملة عبارة الفراهيدي تفسِّرُ محنة المعنى نفسه بأنها: الحال الذي يصير إليها أمرُهُ، لذا سرعان ما نصطدم بسؤال وجودي: «أهُوَ الموتُ الذي يمشِي؟ / أم الداءُ الذي تمشِي إليهِ الكائنات؟ / إنَّهُ الْمَعْنى شُعاعٌ في العَدَم» وهكذا تتشابك صراحة المعنى اللغوي بغموض المعنى الوجودي وتعقيداته.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى