جورج مجاعص ..عرّاب الطباعة الصحافيّة في لبنان والخليج

حين جلس جورج مجاعص (من روّاد صناعة الطباعة الصحافيّة في بواكيرها الأولى في لبنان) مع صديقَين له في مقهى في وسط بيروت الشهر الماضي، كان أشبه ما يكون بمُخرجٍ سينمائيّ يبحث عن خلفيّة مثيرة لفيلمه المُنتَظر؛ فلقد أشار بيده في ما يشبه الحنين الطاغي المُثقل بالشجون، إلى مبنىً أثريّ لا يزال مُنتصباً، أخذ شهرته من شهرة مدينة عُرفت بصحافتها ومطابعها، هو مبني صحيفة “الأوريان لوجور” في أسواق بيروت، حيث كان مُعاصراً لها عندما كان يعمل في مطابع جريدة “النهار” اللّبنانيّة في أواخر الخمسينيّات من القرن الفائت.

المفاجأة كانت كبيرة أيضاً عندما التقى أمير المَطابِع جورج مجاعص بالكاتِب الصحافي الكبير إلياس الدّيري (زيّان)، والذي كان يعرفه أيّام العمل في “النهار” أيّام زمان، مُطالِباً إياه باستعادة مبلغ خمس ليرات لبنانية، كان قد استدانها الدّيري من مجاعص في أواخر الخمسينيّات، فما كان من الدّيري إلّا أن نادى أحد المسؤولين في المقهى ليعطيه ورقة نقدية من فئة الخمسة آلاف ليرة لبنانية، وبعدما لبّى طلبه بسرعة قياسيّة، شرع يوقِّع على الورقة النقدية، سُداد الدّين القديم مع “فائدته” لأمير المَطابِع، بحضور عدد من الزملاء الإعلاميّين بينهم أحمد فرحات (كشاهد على ما يدور)، علّق بعدها الدّيري مُخاطِباً جورج مجاعص: “هذا يوم تاريخي يا أبا داود.. لقد برّأت ذمّتي بعد 57 عاماً من تاريخ هذا الدَّين في رقبتي!”.

سُرَّ الجميع بهذه الواقعة الطريفة التي أعادت بعض ومضات من ذكريات جميلة وأنيسة لحقبة طويلة من تاريخ الإعلام المكتوب في لبنان ومطابعه العتيدة، التي كان جورج مجاعص أحد مدبّريها الأوائل، والشاهدين على تحوّلاتها المفصليّة والتقنية التي نتجت عنها.

سنة 1962، ومع الاحتفال بمرور سنة على استقلال الكويت، كانت المطابع الصحافية وغير الصحافية في هذا البلد العربي العزيز غير مُهيَّأة بعد للإنتاج المطلوب، وذلك لافتقارها إلى المَكنَنة والخبرات. عندها حضر الكويتي حمّود المقهوي، الذي يملك مطبعة أوّلية في الكويت، إلى بيروت، متدبّراً الأمر، وطالباً المكائن الطباعية اللّازمة، وبعدها اتّفق مع جورج مجاعص (أبو داود)، الذي كان يعمل في مطابع جريدة “النهار” اللبنانية، على أن ينتقل إلى الكويت ويعمل في مطابعها المستجدّة بعقدٍ ينصّ على ثلاثة أشهر تجربة. وفي الوقت نفسه اتّفق حمّود المقهوي مع عبد العزيز المساعيد على إصدار صحيفة “الرأي العامّ” الكويتية التي كانت تصدر وقتها في بيروت، وكان مدير التحرير فيها عبد الله شعيتو، وهو إعلامي لبناني كبير ومؤسِّس في دولة الكويت.. هذه كانت بداية أبو داود في عالَم الطباعة والصحافة، كما رواها بنفسه إلى الزميل جاسم عبّاس أشكناني في جريدة “القبس” في العام 2007.

قال أبو داود: بداياتي كانت سنة 1956 في جريدة “النهار”، حيث تدرّبتُ على ماكينات الإنترتيب (صفّ الحروف العربية بالرصاص)، وكان يؤجّرها لجريدة “النهار” معلِّم طباعة يُدعى هيكل غريب مع شريكه أسعد فرح. هكذا، فحتّى الطباعة كانت وقتها بالإيجار، وتحديداً هنا في مطبعة جريدة “رقيب الأحوال” اللّبنانية.

وعند جورج مجاعص، أنّ ما قام به لاحقاً الأستاذ كامل مروّة، مالك جريدة “الحياة” اللّبنانية ورئيس التحرير فيها، على صعيد صفّ الحرف العربي وطباعته، يُشكّل إضافة مميَّزة لتاريخ الصحافة العربية. فقد قام بتصميم حرْفٍ طباعيّ خاصّ به عُرف باسمه (حرف كامل مروّه) وَفَّر يومها على المَطابع مبالغ مالية طائلة، وكذلك صمَّم وليد تويني لاحقاً حَرْفاً خاصّاً بـ”النهار”، لا تزال تستخدمه حتّى الآن، بعدما تمّ نقله إلى الكمبيوتر.

أمّا مشوار جورج مجاعص المهنيّ في الكويت، فكان قد ابتدأ منذ العام 1962 مع صاحب أقدم المطابِع فيها حمّود المقهوي. وصل مجاعص إلى الكويت من بيروت على طائرة فرنسية Caravel. استغرقت الرحلة نحو ساعة وخمس وأربعين دقيقة، وكانت تلك أوّل طائرة تصل بهذه السرعة إلى الكويت.

أوّل وجه صحافي قابله هناك، كان الإعلامي العريق عبد الله شعيتو، الذي ساعده في تسهيل مهمّته على آخر وجه، إذ كان صحافيّاً يفهم في الطباعة وعالمها ومتطلّبات المطبعة وتطوّراتها التقنية.

وقال مجاعص في حديثه للزميل أشكناني: بعدما أسَّست “الرأي العامّ” مطابِعها، صدرت عنها “الآراب تايمز” و “النهضة”، ومجلّة “سعد”، و”دنيا العروبة”، التي كان مدير التحرير فيها طلال سلمان، صاحب جريدة “السفير” اللّبنانية. وتحولت “دنيا العروبة” الى صحيفة “السياسية” لصاحبها اليوم أحمد الجار الله، التي أصدرها في مطبعة المقهوي، وأنضمّ أبو داود بعد ذالك الى أسرة “السياسة” في مطابعها الحاليّة، وبعدها صدرت جريدة “القبس” في مطبعة المقهوي أيضاً.

في تلك الأثناء، كانت دولة الإمارات متأخّرة في المجال الطباعي الإعلامي، بينما كانت وكالات ماكينات الطباعة موجودة في الكويت، وخصوصاً في سبعينيّات من القرن الفائت، حيث كان الإماراتيّون يأتون إلى الكويت لشراء ماكيناتهم الطباعية أو طباعة صُحفهم، ومنها صحيفة “الخليج” التي كانت تطبع في أولى سنواتها من العاصمة الكويتية. وبعد اندلاع الحرب الأهلية اللّبنانية في العام 1975، عمل أبو داود في تركيب المطابِع للإماراتيّين وتجهيزها، حتّى وصل “صيته” الى إمارات الدولة السبع كلّها، وذاع اسمه أيضاً في المنطقة الخليجية عموماً، بعدما قام بتركيب ماكينات صفّ الحروف، وبات من الخبراء/ الرموز الذين وضعوا بصماتهم على ماكينات صفّ الحروف، سواء على مستوى التركيب والتنضديد أم الصيانة والتطوير.

كانت نقطة التحوّل في حياته في العام 1974، يوم ذهب للمشاركة في معرض دولي متخصّص بالطباعة، ليشتري أوّل جهاز كمبيوتر عربي، نصفه ميكانيكي ونصفه الآخر كمبيوتر وماركتهMonotype 400 ، حيث أودعه مطابع “الرسالة”، وقرَّر أن يقتحم هذا العالَم بمزيد من الجُرأة والمُغامرة، وهو يردّد في نفسه: “يا صاحبي، إركب على هذا العقل وروح خيّل بالصحراء وحدك”، ليتبعه في ما بعد الخيّالة الآخرون.

رافق جورج مجاعص أهمّ مرحلتَين في تاريخ المطابع الصحافية العربية: عصر صفّ الحروف بالرصاص، وعصر الكومبيوتر، الذي حلّ مكان الأوّل وأنهاه ، واكتسب بذلك خبرات عمليّة أهّلته لأن يكون خبيراً بالحرف العربي، هو الذي كان “ملكاً” متوّجاً في عصر حرف الرصاص بلا منازع.

هكذا أحدث الانتقال بعملية صفّ الحرف العربي ثورة في عالَم الطباعة، بالتحوّل من الرصاص إلى الفيلم، الأمر الذي استدعى عدداً من التجارب والتعديلات، كي يتماشى هذا الحرف مع التكنولوجيا الجديدة، وكانت المشكلة، كما يشرحها أبو داود، كامنة في “الكاشيدا”، وتعني المسافة الواحدة بين الكلمة ونظيرتها، وبين الحرف والذي يليه.. وقد كانت له أياد بيض في ذلك.

كان أبو داود أوّل من أدخَل أجهزة الكومبيتر في صفّ الحروف إلى الكويت، بعدما هجر عالَم الرصاص ليُفاجِىء أبناء المهنة بالضيف الجديد، الذي أصبح في مرحلة لاحقة واحدة من الأدوات الرئيسة في مرحلة الـ p-press ، وبات أبو داود اسماً راسخاً في عالَم صفّ الحروف، والإعداد لما قبل الطباعة.

عالم الصفّ، في نظر أبي داود، أصعب طريق إلى عالَم الطباعة، “إذا أتقنته، يعني أنّ الطباعة صارت سهلة أمامك مثل شربة الماء”. وأيام “التيبو” كان هو وزملاؤه يردّدون “أعطني حرفاً نظيفاً وخُذ طباعة أنظف”. والْيَوْمَ يقولون “أعطني فيلماً نظيفاً و”بليتاً” نظيفاً وخُذ طباعة نظيفة”. وهكذا دخل ابو داود عصرَيْ الطباعة بكثير من الاحتراف والتميّز، وبشهادة جميع مَن عَملوا معه، ومَن لهم صلة بعالَم الطباعة الصحافية وتمرحلاته.

كان لجورج مجاعص الدَّور البنيوي الكبير في إصدار أربع صحف يومية كويتية بعد التحرير مباشرة، وهي:”القبس” و”الفجر الجديد” و”صوت الكويت” و”كويت تايمز”، حيث تحمّل مسؤولية الإعداد والصفّ لتلك الصحف، على مدار أشهر وصلت حدود السنة، من دون أيّ أعطال أو توقّف، في وقت كانت فيه الكويت تفتقر إلى المعدّات والأجهزة والكوادر اللّازمة لذلك العمل، وفي الوقت نفسه أعاد افتتاح قسم الكمبيوتر للصفّ في مطابع مؤسسة فهد المرزوق مباشرة لتلبية احتياجات السوق بشكل فعّال وسريع.

أبو داود جَمَع بين صفّ الحروف وعالَم الطباعة، وتوسّع في السنوات العشر الأخيرة، بحيث صار يمتلك مطبعة متنوّعة، تُنافس الكبار في المنطقة وتتميّز بتنوّع النشاطات والأعمال. بدأ موظّفاً متواضعاً في العام 1962 عند حمّود المقهوي، واليوم يملك مؤسّسة يعمل فيها نحو 350 موظّفاً، ويديرها بمساعدة أبنائه.

من جانب آخر، وفي وزارة التربية الكويتية تحديداً، كانت بصمات أبو داود ذات علامة فارقة أيضاً.. وأيضاً، حيث قدّم طباعيّاً أجملَ الكُتب المدرسيّة، ووفقاً للمواصفات العالمية السائدة، ليحتلّ بذلك مكانة رفيعة في صناعة الكِتاب، تضاهي ما تُنتجه المطابِع الأوروبية نفسها، وخصوصاً في مجال كُتب الرياضيّات.

أبو داوود ابن مهنة عمل فيها وأضاف إليها طوال أكثر من 55 عاماً، قضاها في مطابع بيروت والكويت، ليصبح بعد هذا العمر “عميداً” للمطابِع، وأحد روّادها والمؤسّسين لها منذ ستينيّات القرن الفائت.. يعرف الرجل تماماً معنى أن يكون المرء ابناً لمهنة يحبّها ويعطيها ويُسهم في تطويرها، ويضع، بالتالي، قواعد وأعرافاً مُشترَكة لها، تكون سبيلاً للمنافسة والإنتاجية ذات الجودة العالية.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى