جون لو كاريه يفضح السلطات السياسية في بريطانيا

لماذا يعود روائي إلى شخصيات ابتكرها وتعمّق في رسم طباعها والمحيط الذي عاشت فيه، بعد أكثر من نصف قرنٍ على قيامه بذلك؟ هذا ما يفعله الكاتب الإنكليزي وأحد أهم وجوه روايات التجسّس، جون لو كاريه، في روايته الجديدة، التي صدرت حديثاً بالتزامن بين لندن ونيويورك بعنوان «إرث جواسيس».

وقبل أن نجيب عن السؤال، نشير بدايةً إلى أن الشخصيات التي يعيد هذا العملاق إحيائها هي الأكثر إثارة من بين تلك الغزيرة التي ابتكرها: أليك ليماس وليز غولد، بطلا رواية «الجاسوس القادم من البرد» الشهيرة، وشخصيات «ثلاثية كارلا» التي لا تقلّ شهرة (جيم بريدو وبيل هايدون وميلي ماكريغ وأوليفر لاكون وتوبي إسترهايز وخصوصاً جورج سمايلي).

نشير أيضاً إلى أن نهاية الحرب الباردة، التي شكّلت إطار هذه الروايات الأربع وموضوعها، جعلتنا نظنّ بأن صاحبها طوى هذه الصفحة لمقاربة التحديات الجديدة التي تواجه عالمنا، خصوصاً وأن رواياته الكثيرة اللاحقة تشهد على تمكّنه من تجديد نفسه، بمعالجته مواضيع راهنة ومتابعته تحوّلاتها.

ولكن ها هي شخصياته القديمة تعود إلى الواجهة في «إرث جواسيس» عن طريق عملية استجواب يخضع لها بيتر غيلام، معاون جورج سمايلي الأقرب، نتيجة شكوى قدّمها ابن أليك ليماس وابنة ليز غولد أمام القضاء ويحمّلان فيها جهاز الاستخبارات البريطانية مسؤولية مصرع والديهما (قُتلا لدى محاولتهما عبور جدار برلين في نهاية «الجاسوس القادم من البرد») . لماذا إذاً هذه العودة إلى شخصيات وأماكن من زمنٍ مضى؟

الجواب يكمن في كون لو كاريه ليس الروائي البريطاني الأكثر شهرة فحسب، بل إنه أيضاً واحد من أكثر الكتّاب معرفةً بالرهانات الأخلاقية للسياسة البريطانية. وبالتالي، فإنّ استحضاره شخصيات وأحداث من الماضي القريب- عن طريق بيتر غيلام في سن الشيخوخة- ليس سوى وسيلة لجأ إليها من أجل منح نفسه فرصة إجراء مراجعة لزمن الحرب الباردة وتقييم الأخلاقية الكامنة وراء صراعاتها الخفيّة. وكما في كل رواياته السابقة، التي أثبت فيها عن بصيرة نادرة في كشف تناقضات سلوك شخصياته، خصوصاً تلك التي تحتل أرفع المناصب الاستخباراتية، نستشفّ في «إرث جواسيس» البصيرة نفسها لدى مقاربته موضوعيها الرئيسيين.

فمن الاستجواب الذي يخضع غيلام له في هذه الرواية، ويشكّل محرّكها السردي، يعمد الكاتب إلى إظهار خبث السلطات السياسية الجاهزة دوماً للتنكّر من مسؤوليتها عن عمليات دموية نظّمتها بنفسها وأعطت الضوء الأخضر لتنفيذها. وفي هذا السياق، تعكس أجوبة غيلام خلال استجوابه غضباً حقيقياً لدى فضحه هذا الخبث. غضب من السهل على القارئ أن يحزر بأن لو كاريه يشعر به أيضاً. ولا عجب في ذلك، فهو في روايته الحالية كما في تلك التي سبقتها، يمعن في كشف كذب السلطات السياسية ليس على المواطنين فقط، بل أيضاً على أولئك الذين تستعين بهم من أجل الترويج لكذبتها.

كما لو أن هدفها الوحيد هو البقاء في السلطة، ضمن حالٍ سينيكية (cynique) لجميع من يسعى إلى محاسبتها. ولعلّ أكثر ما يفضح انعدام الحس الأخلاقي لديها هو تلك الحال «الكلبية» بالذات التي تتعامل بها لدى انكشاف أمرها.

من جهة أخرى، يسعى لو كاريه في «إرث جواسيس» إلى تسليط الضوء على حقيقة يصعب تقبّلها، ومفادها أن أفعال أجهزة الاستخبارات البريطانية لم تكن دائماً غير أخلاقية. فكما يشير إليه جورج سمايلي في نهاية الرواية: «لم نكن مجرّدين دائماً من الشفقة، بل نحن مَن أظهر أكبر قدر من الشفقة.

وإذ يصحّ القول إننا لم نمارسها كما يجب، الأكيد هو أنها كانت عقيمة. نعرف ذلك الآن، لكن كنّا نجهله آنذاك». وطبعاً، لا يحاول سمايلي، بقوله هذا، التملّص من مسؤوليته، فالنزاهة سمته الثابتة التي تجعل منه الشخصية الأهم والأكثر جاذبية في عالم مُبتكِره. وحين يضيف: «هل فعلنا كل ذلك من أجل إنكلترا؟ لفترة معيّنة، أكيد. لكن أيّ إنكلترا؟ تلك التي ترغب في الوقوف وحدها، خارج أي فضاء مشترك؟ أنا أوروبي يا بيتر (…)»، لا نشكّ في أن سمايلي يلخّص موقف لو كاريه بالذات.

لدى صدور «إرث جواسيس»، أقرّ الكاتب بأنّه «لا يمكننا خلق شخصية روائية من دون أن نضع شيئاً منّا فيها». وحين نعرف أنه، مثل سمايلي، اشتغل لمصلحة الاستخبارات البريطانية بين عامي 1959 و1964، قبل أن يكرّس وقته للكتابة بعد النجاح الذي لاقته رواية «الجاسوس القادم من البرد»، لا نفاجأ بالقواسم المشتركة العديدة بينه وبين شخصيته، وتشاركهما الأفكار والمواقف السياسية نفسها.

لكن «سمايلي سيبقى أكبر سنّاً وأكثر حكمةً منّي»، صرّح لو كاريه لإذاعة الـBBC غداة بلوغه سن السادسة والثمانين، قبل أن يضيف: «إنها مرحلة تصعب فيها الكتابة، مع خروج بريطانيا من المجموعة الأوروبية، وانتخاب دونالد ترامب رئيساً لأميركا. ما نعيشه اليوم هو هجوم على القواعد الديمقراطية من ضفّتيّ الأطلسي ووقوع أوروبا بين نارَين. وهذا ما يصعب على سمايلي تقبّله». وحين يقول «سمايلي» هنا، يقصد نفسه طبعاً.

معظم أحداث «إرث جواسيس» هي نفسها المسرودة في «الجاسوس القادم من البرد» و «ثلاثية كارلا»، ولذلك لم نسعَ إلى تلخيصها. ولكن هذا لا يعني أن لو كاريه يكرر نفسه في هذه الرواية التي يكمن جديدها- وأهميتها- في كشف صاحبها فيها خلفيات هذه الأحداث وتفاصيل مجهولة ومثيرة حولها انطلاقاً من التقارير الاستخباراتية التي رفعها الجواسيس المتورّطون فيها إلى مسؤوليهم لدى وقوعها. تقارير تحضر كما هي، أي على شكل تقارير أمنية، وأحياناً بطريقة مشفَّرة، ما يجعل من قراءة الرواية مهمة عسيرة، وفي الوقت نفسه، مشوّقة جداً.

نطمئن أخيراً مَن لم يقرأ «الجاسوس القادم من البرد» و «ثلاثية كارلا» أنه لا يحتاج إلى ذلك من أجل ولوج «إرث جواسيس». نصّ هذه الرواية مستقل بذاته وتتجلى فيه، مرةً أخرى، كل مهارات لو كاريه السردية والكتابية، علماً أننا سنتذوّق أكثر عمقه في حال قراءتنا مسبقاً الروايات الأربع المذكورة ومعرفتنا أن هذا العملاق، بإعادة إحيائه أبرز شخصيات ماضيه، وبجعلها تتوارى في نهاية الرواية، هو في صدد ختم مسيرته الكتابية وتوديع القرن العشرين الذي شكّل خير قارئ لأحداثه الكبرى.

صحيفة الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى