جون م. غانم في كتابه ‘الاستشراق والقرون الوسطى’: الماضي بلد آخر

“أين وطني؟ أيكون المحيط الهادي؟

أهي شواطئ الشرق الثرية؟

أم هي القدس؟

كل المضائق ولا شيء غيرها

آنيان، ماجلان، جبل طارق

هذه هي طرقي

تأخذني حيث عاش يافث وربما حام وسام

“جون دون ـ السوناتة المقدسة”

في العالم القديم، في الشرق، قناة السويس

ينساب البحر بأمواجه الرقيقة

لا تنفك تؤرقني

الماضي، الماضي، الماضي

أرجع إلى الماضي البعيد

“والت ويتمان ـ الطريق إلى الهند”

هكذا بدأ جون م. غانم لتمهيد كتابه “الاستشراق والقرون الوسطى”، الصادر عن مشروع “كلمة” للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، وترجمة عبلة عودة، ساعيا نحو الكشف عن مدى تأثر أوروبا القرون الوسطى بالشرق العربي والإسلامي، حيث يحاول تأكيد مقولة الروائي “إل بي هارتلي” في روايته ” The Go – Between ” “كأن الماضي يعبر عن بلاد أخرى مختلفة”، أو “الماضي بلد آخر” ويقول إنها مقولة صحيحة حرفيا بالنسبة إلى أحد جوانب الماضي الأوروبي وهو القرون الوسطى، أي الفترة التي يعتبرها المؤرخون نقطة البداية في تكوين الهويات القومية الأوروبية، غير أن هناك أيضا من ينظر إلى التاريخ القروسطي الأوروبي أنه نتيجة للغزوات الخارجية، والتأثيرات الأجنبية التي تدخلت في تغيير مسار التاريخ”.

انطلاقا من ذلك فإن فصول الكتاب الثلاثة تحاول تتبع التعبيرات والمصطلحات التي تعبر عن هذه الهوية الهجينة والعلاقة الوثيقة بين الاستشراق والنزعة القروسطية، حيث يتم توضيح أن “فكرة القرون الوسطى كما تطورت من سياقها الابتدائي في الوعي التاريخي للغرب الأوروبي هي جزء مما نسميه أزمة الهوية، وهي شعور عميق بالشك تجاه ماهية الغرب، وما يجب أن يكون عليه، إذ إن فكرة النقاء الأوروبي في العصور الوسطى تتفاعل مع شعور بالقلق تجاه أصول أوروبا والغرب عموما”.

تبحث فصول الكتاب في عدة مواضيع مثل الأدب والفن المعماري والتاريخ والمنهجية التي ميزت القرون الوسطى، فقلد ظهر في القرنين السادس عشر والسابع عشر اتجاهات تدين القوطية، وتدافع عن الكلاسيكية الجديدة، في خطاب استغرابي يعتمد نماذج من الثقافات الشرقية، وظهر ذلك جليا في عدد من الاجناس الثقافية التي أكدها أصحاب النزعة القروسطية كرموز قروسطية مثل الفن المعماري القوطي، والأدب الرومانسي القروسطي.

أما العمارة القوطية فقد كانت تقرأ على أنها عمارة محلية غربية، فالأقواس التي تميز الأسقف القوطية ترمز إلى الأشجار الضخمة في شمال أوروبا، غير أن تلك القراءة تؤكد أيضا الهمجية التي عرف بها القوطيون في أوروبا وفي أحيان أخرى كانت الأقواس القوطية ذات الأقواس المدببة تعزى إلى تأثير الشرق الاسلامي “الذي يكتسح العالم المتحضر ويهدد العمارة الكلاسيكية”.

وفي السياق يقول كريستوفر رين ـ 1632 ـ 1723 وهو المهندس المعماري الذي أشرف على بناء كاتدرائية سانت بول، مدافعا عن أسلوبه الكلاسيكي في المعمار “إن الأسلوب الشرقي في البناء ينتشر في جميع أنحاء أوروبا ولاسيما في فرنسا”.

ويضيف جون م أن الحال كذلك بالنسبة إلى الأدب القروسطي أو على الأقل الأدب الرومانسي القروسطي، إذ اعتبره مؤيدوه سجلا للتاريخ الوطني لأوروبا لكنه أجنبي وشرقي على وجه الخصوص في عدد من مفاهيمه أيضا، وقد كان رواد الأدب الرومانسي في القرن الـ 18 يعتزون بأصوله غير الغربية ويرون في الدفاع عن هذا الأدب دفاعا عن الفن الروائي عامة، ودفاعا عن جوهر الابداع ذاته. ولعل هذا الدفاع المستميت عن هذا النوع من الأدب يرجع إلى الآخرية بشقيها الداخلي والخارجي، فمن جهة هي آخرية الداخل، أي الهمجي لأوروبا ومن جهة أخرى هي آخرية الخارج أي نموذج الأدب الشرقي”.

ويرى جون م أن فترة ما بين القرنين العاشر والثاني عشر شهدت ازدواجية غربية في النظرة تجاه الغرب، فمن جهة تركت الحملات الصليبية سجلا حافلا بالكراهية والعدوانية تجاه الشرق لا تظهر فيه إلا بعض محاولات فردية هنا وهناك، للتعامل والتفاوض مع الأعداء، ومن جهة أخرى فإن التفكك والضعف الذي حاق بإسبانيا المسلمة أدى إلى انفتاحها، ليتدفق منها فيض من الأفكار والنصوص والحوارات باتجاه أوروبا، التي بدأت في ذلك الوقت انفتاحها على العالم بطريقة مختلفة عما سبق من عدوان وتوسع باتجاه البلاد الأخرى.

وإذا كان الخطاب الاستشراقي قد تطور ضمن حالة من الديناميكية الغربية في أثناء مراقبتها لحضارة عظيمة تذوب وتختفي، فإن الاستشراق القروسطي قد وقع في فخ من نوع مختلف، فلطالما كان الاستشراق القروسطي قلقا وحائرا تجاه الآخر، غير أنه كان يعي عظمة الثقافة الشرقية وكم الابداع فيها، ولذلك حاول الغرب الأوروبي استقطار واستخلاص ما يمكن استخلاصه من هذه الثقافة المركبة والمعقدة التي كانت مغرية ومخيفة فيي الآن ذاته.

وهكذا أخذت أوروبا تفهم ذاتها وتعرفها من جديد عبر هذه النصوص المنتقاة من الثقافة الشرقية والعلوم والأفكار الجديدة، بيد أنها ومن خلال عملية إعادة تعريف ذاتها أعادت صياغة دونيتها أمام الثقافة العظيمة في شكل من أشكال الفوقية”.

يتطرق الفصل الأول من الكتاب “القرون الوسطى جنس أدبي” إلى تحليل العلاقة بين الأدب الرومانسي القروسطي والعمارة القوطية ذات الأصول الشرقية أولا عبر نظرة الكلاسيكية الجديدة الحداثية المتقدمة ومحاولتها تأسيس العمارة الإغريقية والرومانية بالإضافة إلى ثقافة هاتين الحضارتين لتصبح عماد الحضارة الغربية. وثانيا عبر نظرة أعلام الرومانسية وما قبل الرومانسية في العصور الوسطى، ومحاولاتهم تقديم صورة بديلة وفاضلة للتاريخ والجغرافيا في القرون الوسطى، ويخلص هذا الفصل إلى تساؤل حول بعض المواقف الحديثة من الأدب والثقافة التي مازالت تستخدم ثنائية الاستشراق والقروسطية.

أما الفصل الثاني فيتعرض إلى اختفاء القرون الوسطى كعامل من عوامل تشكيل الهوية الأوروبية في النظريات القومية التي ظهرت في القرنين الـ 16 و17 ولاسيما تلك التي تطرح مسألة استقرار الفينيقيين والعبرانيين في مرحلة من مراحل ما قبل التاريخ في بريطانيا.

ويتتبع الفصل الثالث والأخير الجهود حول كتابة القرون الوسطى كظاهرة متعلقة بالهوية القومية والشخصية وظهورها في المعارض الدولية بأشكال مادية أخذت من الشرق.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى