جيروم روس… لماذا نسدّد الديون السيادية؟
موضوع كتاب «لماذا الامتثال لسدادها؟ الاقتصاد السياسي للديون السيادية» (منشورات جامعة برينستون ـ 2019) لجيروم روس ذو صلة بكثير من الأحداث في بلادنا وبمسألة الديون السيادية والإعفاء منها. ومثال على ذلك «الربيع اليوناني» عندما حقّق حزب سيريزا اليساري نصراً كاسحاً في الانتخابات التمثيلية عام 2015 على قاعدة رفض الانصياع لإملاءات الدائنين. لكن الأخيرين كانوا أقوى بما لا يُقاس، فتمكّنوا من فرض سياساتهم وشروطهم عليه، وقادوا انقلاباً عندما أجبروا رئيسه ألكسس تسيبراس على الانصياع لشروطهم التي كانت لصالح البنوك الدائنة. هذا يقودنا إلى عنوان الكتاب وأسباب امتناع الدول المديونة في العقود الأخيرة عن رفض إملاءات الدائنين والخضوع لإملاءاتهم، وكذلك أسباب عدم استسلام المقرِضين للمقترضِين وأسباب استمرار الدول الفقيرة في الاقتراض، مع أن ذلك يؤدّي إلى تحويلات ضخمة من الأفقر إلى الأغنى، دولاً ومستثمرين.
يوضح الكاتب جيروم روس وهو زميل في London school of economics كيف أن التحول في الاقتصاد العالمي قد أدى إلى إعادة تشكيل علاقات القوة الدولية والمحلّية، ما قاد إلى مجموعة هائلة من الحوافز والقيود التي تجبر الدول على سداد ديونها حتى عندما تكون التكاليف الاجتماعية مرتفعة ولا تُطاق وعلى نحو سيقود حتماً إلى الانهيار المالي.
عمل الكاتب على ثلاث آليات تعمل ضدّ التخلف (default) عن سداد الديون السيادية وهي انضباط السوق ومشروطية السياسة والنخب الوطنية في البلاد المديونة. إن كبح الآليات الثلاث للبنوك الدولية والمؤسسات متعدّدة الأطراف والرأسماليين المحليين، يتغلب على النزعات إلى التخلف عن السداد، ما جعله حدثاً نادراً في العالم المعاصر، مع أن العقود الأربعة التي انقضت منذ انهيار نظام بريتن وودز Bretton woods regime بعد صدمة نيكسون في أوائل سبعينيات القرن الماضي، شهدت تواتراً من أزمات الديون الخارجية ضعف ما كان عليه الحال في العقود السابقة لعام 1914. مع ذلك، بالكاد نشهد حالياً أيّ حالة تخلّف عن سداد الديون السيادية، في حين أنها كانت شبه طبيعية من القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيات القرن الماضي.
يقدّم الكاتب إجابات تفسّر سبب ثقة المستثمرين الأجانب في الوقت الحالي في حتمية السداد في المواعيد المحددة رغم عدم وجود آليات إنفاذ قانونية فعّالة على الحكومات المدينة. لكن وفقاً لروس، فإنّ أيّاً من التفسيرات المقدّمة وهي: الحفاظ على سمعة البلد المديون، ودبلوماسية الزوارق الحربية، والعقوبات التجارية، والمؤسسات الديمقراطية، ليست قادرة على الصمود أمام التمحيص التجريبي.
هنا يناقش المؤلّف التفسيرات آنفة الذكر انطلاقاً من رؤى علم الاجتماع ويقترح إطاراً للاقتصاد السياسي الثاقب. في الظن المفرط في التبسيط بأن الدول تتصرف كديكتاتوريين خيّرين، فإن النماذج الاقتصادية تفترض عادة صراعات التوزيع وديناميات القوة. من خلال تجنّب تسييس الديون السيادية، يجادل المؤلّف بأن الأدبيات الحالية تخفق في إدراك الواقع العملي الذي يعتمد عليه قرار التخلف عن السداد وكيفية ذلك. لكن بمجرّد إعادة صياغة السؤال، ينتقل التركيز إلى صراعات السلطة على توزيع تكاليف التكيف بين الجهات الفاعلة الثلاث وهم المقرِضون من القطاعَين الخاص والرسمي ودائرة المَدين السياسية ذات الصلة والحوافز والقيود التي يفرضونها على المديون السيادي والنخب المحلية في الدول المدينة. بناءً على ذلك يمكن لهذه الجهات الفاعلة أن تحفّز على الامتثال من خلال ثلاث آليات إنفاذ: الانضباط السوقي (market discipline) الذي تفرضه عصابات الدائنين الدوليين (international creditors’ cartels) والقروض المشروطة المقدمة من المقرِضين الدوليين الذين يشكلون الملاذ الأخير، وإضفاء الطابع الداخلي على الانضباط المالي بقيادة النخب المحلية التي غالباً ما تتوافق مصالحها وأيديولوجيتها مع رديفها لدى رأس المال الخارجي، وسنعود لاحقاً لهذه النقطة الأخيرة نظراً لأهميتها.
يوضح المؤلّف أنّ التحولات الأخيرة في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك الاحتشاد أو التركيز غير المسبوق والمركزية في أسواق الائتمان الدولية، أنتجت مؤسسات مالية مهمة وقوية من الناحية السياسية. فإلى جانب الدور التدخلي المتزايد للمقرضين الرسميين الذي لن يؤدّي إلّا إلى صرف قروض الطوارئ بشروط قاسية، فإنّ هذه القوة غير المرئية للتمويل، والمضمنة هيكلياً في الهيكل المالي العالمي سهّلت تشكيل كارتيل دائن دولي قادر على إحداث فوضى في البلد المستدين بطريق التهديد الحقيقي بحجب الائتمان قصير الأجل الذي سيؤدّي في حال تطبيقه إلى توليد آثار غير مسبوقة على المدى القصير. هذا ما دعا الكاتب للقول إن اجتماع هذه القوى يفسّر الانخفاض النسبي في التخلّف عن السداد من جانب واحد خلال الأعوام الثلاثين الماضية.
يشرح الكاتب آراءه آنفة الذكر في مؤلّفه الذي نال إطراءات من كثير من أهل الاختصاص المستقلّين وقسّمه إلى خمسة أجزاء يضمّ كل منها فصولاً عدة. الجزء الأول «نظرية الدين السيادي» يستعرض الأدبيات المتعلّقة بالديون السيادية ويحدّد آليات التنفيذ الثلاث والظروف التي من المحتمل أن تكون فعّالة فيها وتلك التي تؤدّي إلى الانهيار. أمّا الجزء الثاني (تاريخ مختصر للتخلف عن السداد)، فيقدم عرضاً موجزاً عن التخلّف عن السداد من أواخر العصور الوسطى إلى سبعينيات القرن الماضي، من صعود الاقتراض العام في المدن الإيطالية إلى دبلوماسية الزوارق الحربية في العهد الإمبريالي وموجة التخلف عن السداد خلال فترة الكساد العظيم. ويصف بوضوح أزمات ديون البلدان النامية في الثمانينيات والتسعينيات ويلقي ضوءاً جديداً على الاضطرابات الأخيرة داخل منطقة اليورو، بما في ذلك الاستسلام المأساوي لحكومة مكافحة التقشّف اليونانية قصيرة الأجل لدائنيها الأوروبيين في عام 2015. ويلي ذلك في الجزء الثالث عرض ثلاث حالات عن أهم أزمات الديون السيادية في العقود الماضية في ضوء الحوافز والقيود التي تفرضها آليات الامتثال الثلاث وهي المكسيك، والجزء الرابع عن الأرجنتين، والخامس مكرّس لليونان.
بالعودة إلى الآلية الثالثة التي تفرض على المديون الانضباط والخضوع والرضوخ لشروط الدائن لأنها تضفي طابعاً داخلياً على «انضباط» المدين، يقول الكاتب: «قد تتوافق مصالح النخب الحاكمة في الدولة المَدِينَة مع مصالح المقرِضين على نحو أفضل من توافقها مع مصالح غالبية المواطنين الذين من المفترض أنها تمثّلهم. فقد يؤدّي التخلّف عن السداد إلى إلحاق كوارث بالخطط التي تعمل هذه النخب بموجبها: فالبنوك التي تدعم الشركات التي تملكها قد تفلس وكذلك انعدام قابلية تحويل العملة التي تسمح لهم بشحن ثرواتهم إلى العالم الغني. كما تواجه النخب احتمال الخراب الفوري في حالة التخلّف عن السداد. أخيراً غالباً ما تتولّى النخبة المصرفية الصغيرة للغاية في البلاد العملية برمتها عندما يلوح في الأفق الإفلاس».
هذا في كثير من الأحيان يتناقض بشكل حاد ّمع مصالح غالبية الناس الذين قد يواجهون مؤقتاً تهديداً حقيقياً بالبطالة أو ما هو أسوأ، لكنهم سيستفيدون من التعافي السريع الذي سيتبع. قد يكون هذا أكثر جاذبية من «العقود الضائعة» التي واجهتها اقتصادات بأكملها من سفك الدماء الذي كان ضرورياً في كثير من الأحيان لخدمة ديون الدولة وهي في كثير من الأحيان ديون كريهة راكمها حكام فاسدون جشعون (وفي أحيان كثيرة إداريون عملاء ينفّذون أجندات الدائنين في الغرب الاستعماري ـ ز م).
صحيفة الحياة اللندنية