جيم هاريسون يقابل عنف الإنسان بجمال الطبيعة
عام 1981، اكتشف القرّاء الفرنسيون الكاتب الأميركي جيم هاريسون (1937- 2016) من خلال الترجمة التي وضعها سيرج لينز لأحد أشهر كتب هذا العملاق، المجموعة القصصية «أساطير خريفية» (1979). ترجمة لاحظ ناقل معظم أعمال هاريسون إلى الفرنسية، بريس ماتيوسون، أنها تقريبية أحياناً وتعتريها بعض الأخطاء المؤسفة، على رغم قيمتها، وهو ما دفعه إلى وضع ترجمة جديدة لها صدرت حديثاً عن دار «فلاماريون» الباريسية.
«يتوجّب إعادة ترجمة النصوص الأدبية كل خمسين عاماً»، يقول ماتيوسون في مقدّمته لهذا العمل، من منطلق أن كل ترجمة تشيخ مع الوقت، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بتحفة أدبية نادرة مثل «أساطير خريفية»؟ وفعلاً كل واحدة من القصص الثلاث الطويلة التي تتألف منها هذه المجموعة تتحلى بتلك الصلابة الشفّافة والقاطعة لبلّورةٍ مقتلعة من عمق النفس البشرية، وأبداً لن يتمكن هاريسون في ما بعد من بلوغ تلك النقاوة والقوة التي تميّزها. أبدأ لن يتشابك في نصوصه اللاحقة الجنون والموت والتيه والرذيلة والجشع والأنانية وانحرافات التاريخ بهذا القدر من العنف والنعمة مع جمالات الطبيعية الأميركية وكائناتها.
وبالتالي، ثمة قاسمان مشتركان في هذه السرديات: الأول هو شعورنا طوال فترة قراءتها بأن يد عملاقٍ هي تلك التي كتبتها، والآخر هو العنف الذي يحتل موقعاً مركزياً في كل منها ويشكّل خيطاً موجّهاً لأحداثها. عنف رجلٍ مجروح في جسده وقلبه وكبريائه، إثر تعرّضه للخيانة على يد صديق أو زوجة أو الحياة نفسها، ولا يرى خلاصاً له إلا بالانتقام.
و «انتقام» هو عنوان القصة الأولى التي نشاهد في بدايتها كوشران، بطلها، منازعاً في الصحراء المكسيكية قبل أن ينقذه قروي وابنته من الذئاب والطيور الكاسرة التي كانت على وشك التهامه. ومن مراجعته شريط حياته أثناء مرحلة شفائه، يتبيّن لنا أنه طّيار حربي سابق استقرّ بعد طلاقه في مدينة توكسون (ولاية تكساس) حيث كان يمضي وقته في ممارسة رياضة كرة المضرب مع رجال أثرياء، ومن بينهم الملياردير تيبي الذي ينتمي إلى المافيا المكسيكية ويعيش محاطاً بحرّاسه القتلة وبرفقة شابة فاتنة تدعى ميريا. وعلى رغم الصداقة التي تجمعه بهذا الأخير، لن يلبث كوشران أن يقع في حبّ ميريا. وحين تبادله هذه الشابة مشاعره ويكتشف تيبي لقاءاتهما السرّية، يقرر الانتقام منهما بطريقة وحشية. وبما أن كوشران سينجو بأعجوبة من عقاب تيبي، لا مفاجأة في الهاجسَين اللذين سيتسلّطان عليه بعد شفائه.
في القصة الثانية، «الرجل الذي تخلّى عن اسمه»، نتعرّف إلى طالب جامعي خجول يدعى نوردستروم ويعشق في السرّ طالبة شقراء لا تعبّره. لكن تشاء الظروف يوماً أن يلتقيان ويمارسان الحب، فتتغيّر نظرة هذه الشابة إليه وتقبل الزواج منه وتنجب له ابنةً. وبعد سنواتٍ طويلة من الحياة الزوجية السعيدة يجمع نوردستروم خلالها ثروة كبيرة، تطلب زوجته الطلاق منه، فتنقلب حياته رأساً على عقب ويبدأ مرحلة تأمّل في مسيرته يستنتج خلالها أن «حياته لم تكن سوى تراكم أفعال يومية متكرِّرة»، وأن نجاحه المهني مجرّد كذبة، قبل أن يبرهن لنا، في سياق محاولته إنقاذ نفسه، أن مهما كانت طبيعة أخطائنا، ثمة وقتاً لتصحيحها، لأن «لعبة الحياة لا تنتهي إلا حين توافينا المنيّة».
القصة الثالثة، «أساطير خريفية»، يعرفها معظمنا لاقتباس فيلم رائع منها أدّى دور البطولة فيه أنتوني هوبكينس وبراد بيت. قصة نرى في بدايتها الأخوة الثلاثة «لولدو» يغادرون على أحصنتهم مزرعة والدهم متوجّهين إلى كندا للانضمام إلى الجيش الإنكليزي ومحاربة الألمان إثر اندلاع الحرب العالمية الأولى. وبخلاف ألفرد، الأخ الأكبر، الرصين والخجول، وصامويل، الأخ الأصغر، الحالم الهشّ والمثقف الوحيد في العائلة المولع بتأمل ودراسة الطبيعة، يبدو تريستان، بطل القصة، متمرّداً منذ صغره ويعاني من صعوبة في التعبير عن مشاعره، على رغم جرأته وطابعه المغامر. وحين يصل الأخوة الثلاثة إلى فرنسا، ينخرط ألفرد وتريستان مباشرةً في المعارك، بينما يحتل صامويل منصباً إدارياً داخل الجيش. لكن حين يُكلَّف بمهمة استطلاعية ويُقتَل في كمين، يجنّ تريستان وينطلق في تنفيذ عمليات عسكرية يقتل خلالها ألمان كثر انتقاماً لأخيه، قبل أن تعتبره قيادته مجنوناً وترحّله إلى أميركا حيث يتزوّج بهدفٍ واحد: إنجاب طفل يحلّ مكان صامويل. ولأن ألمه من فقدان أخيه لن يخفّ، يحاول خنقه برحلات بحرية طويلة لا يواجه خلالها احتدام العناصر في عرض البحر فحسب، بل أيضاً كل أنواع المخاطر، قبل أن يعود إلى مزرعة والده بعد سنوات ويتمكن من تأسيس حياةٍ أخرى. لكن هل ستكون هذه الحياة أفضل من حياته السابقة؟
ولأن ثمة دائماً هندياً في روايات وقصص هاريسون، يحضر لا كعنصر ديكور، بل كشاهد على أفعال الإنسان الأبيض الشائنة، لا يسعنا عدم التوقف في هذه القصة عند شخصية الهندي الذي تربّى تريستان على يده، ويفتننا بطيّبته ووفائه، وأيضاً بتشكيله، في حكمته وطريقة حضوره داخل محيطه، نقيضاً راديكالياً لإنسان عالمنا الراهن الذي يركض في جميع الاتجاهات مثل ديكٍ قُطِع تواً رأسه، ويدمّر بيئته الطبيعية، حين لا يستنفد مواردها. لا يسعنا أيضاً عدم التعبير عن عدم تفاجئونا من اقتباس فيلمٍ رائع من هذه القصة، فشخصياتها، مثل جميع الشخصيات التي ابتكرها الكاتب على طول مسيرته الكتابية، مرسومة بدقّة وتعقيد يجعلانها أكثر واقعية من تلك الحقيقية التي نعرفها، ولغتها السينماتوغرافية تشكّل خير أداة لتصوير فضاءات أميركا الطبيعية الشاسعة التي لا يصفها هاريسون في قصصه الثلاث بقدر ما يجعلها تحيا أمام أنظارنا.
لكن قيمة هذه المجموعة لا تقتصر على أسلوبها الفريد وحيوية شخصياتها، بل تمكن أيضاً وخصوصاً في التأملات الوجودية الغزيرة المسيَّرة في قصصها وتعكس رؤية صاحبها العميقة والبصيرة للحياة وإنسانيته النادرة. وإذ لا مجال هنا لاستحضار نماذج مختلفة عن هذه التأملات، نكتفي بواحد تتجلى فيه أيضاً مهارة هاريسون في خلط العنف والشعر داخل نصّه ضمن خيمياء فريدة تجعلنا نرغب في قراءة- أو إعادة قراءة- جميع أعماله: «يتجنّب البشر مواجهة اللغز المؤسِف الذي يتعلق بغياب نظامٍ عادل في توزيع المكافآت والعقوبات على هذه الأرض، (…) خصوصاً في الحالات الأكثر مأساوية، كمصير أطفال قبيلة «نيز بيرسي» (الهندية) الذين كانوا ينامون في خِيَمهم حين مزّقتهم نيران فرقة الخيّالة الأميركية. لا شيء أكثر دناءة من لقاء طفلٍ برصاصة بندقية. ثم يا للهوّة في فهم ما حدث، فالصحف آنذاك تغنّت بالانتصار الكبير لجيشنا. نودّ أن نصدّق بأن كل نجوم الكون تتجمّد رعباً وقرفاً أمام مثل هذه الوحشية، بأن كوكبة «أوريون» تتفكك وكوكبة «صليب الجنوب» تنهار. وهو ما لا يحصل طبعاً أبداً. الثابت يبقى على حاله، وكل منّا يصطدم في حلقته الخاصة بهذا اللغز إلى ما لا نهاية».
صحيفة الحياة اللندنية