«جيوش لبنان، انقسامات وولاءات»: قصة عسكريين مغامرين [ 2/3]

أزمة الثقة بين قائد الجيش ومدير المخابرات

مستوحياً نصيحة حكمت الشهابي عندما قال له “كي تنجح في مهمتك على رأس قيادة الجيش، من الواجب مراعاة نبيه برّي ووليد جنبلاط والاخذ في الاعتبار ما يريدانه، من دونهما ستواجه صعوبات، هما حليفانا الرئيسيان وارى ان تتعاون معهما”، عزز سامي الخطيب اتصالاته بهما، متوقّعاً وقوفهما الى جانبه وتسهيل قيادته الجيش البديل من خلال الرجلين الاقرب اليهما: الدرزي العقيد رياض تقي الدين، والشيعي العميد لطفي جابر وكان لا يزال يشغل عضوية المجلس العسكري المجمّد الدور والالتئام بصفته مديراً عاماً للادارة، فأضحى بالصفة نفسها جزءاً لا يتجزأ من ادارة الالوية الغربية، مع ان رئيسه المباشر هو وزير الدفاع وليس قائد الجيش.

عملاً بهذا المنصب، عاين لطفي جابر ــــ وكانت المديرية العامة للادارة استقرت بأجهزتها وعديدها في احد مباني وزارة التربية في قصر الاونيسكو ــــ الحاجات التي افتقرت اليها الالوية الغربية، وهي التغذية والبزات والطبابة والعتاد وصرف الموازنة المخصصة لها الواقعة تحت رقابته، قبل ان يذهب الى سامي الخطيب يقول له: انا معك في انشاء هذا الجيش. لكن مَن سيدفع نفقاته ومِن اي موازنة، ومِن اين ستصرف الاموال؟ مَن سيُطعم العسكر؟

قال لنبيه برّي الكلام نفسه عندما استمزجه رأيه في تجميع الالوية الغربية: كمدير للادارة انا جاهز للتعاون. لكن ذلك لا يكفي. يقتضي الحصول على توقيع وزير المال. مدير الادارة مسؤول عن اعاشة العسكريين وتغذيتهم وتأمين رواتبهم وطبابتهم وعتادهم وتجهيزاتهم، وانا مَن يأذن بشرائها. لكن من اين المال؟

ذكّر سامي الخطيب بأن سليم الحص، رئيس الحكومة وزير المال بالوكالة، رفض تعيينه قائداً للجيش بالتكليف بمرسوم، وفضّل الاكتفاء بقرار يصدره الوزير المختص.

قال له: إئتِ لي بتوقيع وزير المال. اضغطوا على سليم الحص. من دونه لا جدوى لأي معاملة اعدها. هو مَن يُطعم العسكر لا انا.

لطفي جابر احد ثلاثة ضباط شيعة بارزين واسعي التأثير في بيروت الغربية، يدينون بالولاء المطلق لنبيه برّي، ولا يتخذون موقفاً او ردّ فعل قبل العودة الى رأيه. الآخران هما قائد اللواء السادس العميد عبدالحليم كنج ورئيس اركان اللواء المقدّم عصام عطوي. قبل التحاقهما بقائد الجيش بالتكليف، اجتمعا برئيس حركة امل الذي اعلن للتوّ استعداده للتعاون. استمر نفوذ نبيه برّي طاغياً على اللواء السادس ذي الغالبية الشيعية، يمثل مظلة سياسية صلبة له رغم انقضاء سنوات على انتفاضته المسلحة على الجيش في 6 شباط 1984، وطردها اياه من العاصمة. في ظل قيادة ميشال عون ما بين عامي 1984 و1988، لبث الرجل صاحب الكلمة الفصل في تحريك اللواء السادس الذي اعيد إلحاقه ــــ كما سائر الالوية المنشقّة آنذاك ــــ بالقيادة الأم الجديدة. لم يكن في الامكان تعيين قائده، ورئيس اركانه، وقادة كتائبه، دونما العودة حتماً اليه. ما لبث ان وجد سامي الخطيب نفسه يجبه المشكلة نفسها: ليس هو آمر اللواء السادس.

رغم الدعم والتأييد السياسيين اللذين محضاه اياه، نظر نبيه بري ووليد جنبلاط بحذر الى قيادة سامي الخطيب. الا انهما اشعراه بتأثيرهما الفاعل في قلب القيادة، اذ تحوّلا مرجعية اللواءين السادس والحادي عشر اللذين يمسكان ببيروت الغربية ومخارجها الى الجنوب والبقاع، ناهيك بالامتداد الطبيعي الذي يصلها بجبل لبنان الجنوبي.

محتفظين بترسانة ضخمة من السلاح والعتاد والمقاتلين، لم يكن في حسبان اي احد توقّع اقدامهما على اخلاء العاصمة ومناطق نفوذهما في الجبل والجنوب والبقاع لقيادة لم تعنِ بالنسبة اليهما ــــ وإن انبثقت من قرار دمشق ــــ سوى ردّ فعل، وظيفتها في الاصل اولاً ودائماً التشهير بشرعية ميشال عون على رأس قيادة الجيش وتقويضها. كذلك عدّا استمرار حكومة سليم الحص تقويضاً لشرعية ترؤسه حكومة عسكرية انتقالية. لم تكن القيادة البديلة للجيش هدفاً في ذاتها، بل احدى وسائل الضغط لمهمة موقتة في توقيت محدّد تُطوى صفحتها على الاثر. ظلت قيادة اليرزة الهدف المقصود. توخى نبيه برّي ووليد جنبلاط من الوظيفة تلك المنوطة بسامي الخطيب ان تكون: سياسية اكثر منها عسكرية، رمزية اكثر منها واقعية. لملمة قوى الجيش في بيروت الغربية والمحافظات واعادتها الى ثكنها، واعادة تدريبها وتأهيلها الى حين استخدامها في مواجهة الفريق الآخر. الا ان القرار العسكري، تحت مظلة القوات السورية، يقيم بين ايديهما فقط، وقد ذابت من حولهما الميليشيات والشلل المسلحة الصغيرة بما فيها الميليشيا السنّية المرابطون، بعدما تناوب الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة امل على تصفيتها عام 1985.

كانت لسامي الخطيب، في المقابل، وجهة نظر معاكسة تماماً، هي انه قائد فعلي لجيش يريد ان يأمره ويبسط سيطرة جنوده حيث يكون. على نحو كهذا، افصحت حوادث شتى عن تفاقم الصراع على السلطة على الارض والتنافس، كما إمرة الالوية الغربية. بدا له انه يواجه عدواً في الخارج هو ميشال عون، واكثر من خصم في الداخل ــــ جميعهم حلفاء لسوريا ــــ كنبيه برّي ووليد جنبلاط والاحزاب العقائدية وسليمان طوني فرنجيه تحت جناحي جده الرئيس السابق للجمهورية مذ استقبل بفتور تعيين ضابط سنّي في منصب يشغله عرفاً ضابط ماروني.

زاره قائد الجيش بالتكليف في 23 تشرين الثاني 1988 على رأس الضباط الكبار في اركان الالوية الغربية، في زغرتا ظهراً، بعد تفقدهم ثكنة بهجت غانم في طرابلس واجتماعهم بعمر كرامي. ببرودة لافتة وكثير من الاستخفاف استقبلهم الرئيس السابق الذي لم يُخفِ عدم ترحيبه بهم، بعدما تطلّب الحصول منه على موعد وقتاً طويلاً والاستنجاد بوساطة بغية تخطي مماطلته.

بعدما شرح له مهمته التي وصفها ببعد وطني ترمي الى اعادة وحدة الجيش، قائلاً انه لم يشأ هذا المنصب “كي تُعزَف لي تحية السلاح”، ردّ سليمان فرنجيه بتهكم بادٍ: انت قدموا لك السلاح، بينما انا عزفوا لي النشيد الوطني. هذا آخر ما يعنيني.

لم يُعِر حديث سامي الخطيب اهتماماً، وانصرف عنه الى الكلام مع الياس سابا صديقه ووزير اولى حكومات عهده عام 1970، وكان حاضراً المقابلة.

خلافاً لما اعتاد عليه ــــ هو المفطور على حسن الضيافة والكرم ــــ لم يدعُ زواره الى الغداء الى مائدته، وتذرّع بانشغاله بموعد لاحق كي يحيلهم على نجله قائد ميليشيا المردة روبير فرنجيه للاجتماع به.

ثم انهى المقابلة على نحو اقرب ما يبدو الى طرد.

لم يتعدّ الكلام مع نجل الرئيس السابق المجاملات واحاديث عابرة، دونما الحصول على تأييده.

في طريق العودة الى بيروت، قال نبيه فرحات لسامي الخطيب في السيارة التي اقلتهما، من دون ان يخفي إمارات الامتعاض والاستياء من المعاملة السيئة تلك: هذا الرجل لا يعترف بقائد للجيش لا يكون مارونياً.

في 30 ايلول 1989 قصد رئيس الاركان السورية العماد حكمت الشهابي في مكتبه، وفاتحه في عصيان رئيس اركان اللواء السادس المقدّم عصام عطوي، وتمرّده على قرارات قيادته وتدخّله في تشكيلات قرّرتها، اضف رفضه لها واختباءه وراء حركة امل. في شكواه، اتهمه بخطف احد ضباط فرع الامن العسكري في مديرية المخابرات الرائد سهيل حماد في وضح النهار، ووضعه في صندوق سيارة “على مرأى من الجميع والتأثير السلبي لما حدث على معنويات ضباط قيادة الجيش والاجهزة الباقية التابعة لها”.

بعد اربعة ايام كتب الى حكمت الشهابي يكرّر معاناته من المشكلة نفسها ويطلب تدخّله مجدّداً، ويلوّح في الوقت نفسه باحتمال تخليه للمرة الاولى عن منصبه. روى في رسالته جوانب من تمرّد عصام عطوي “الذي يرفض التعاون مع اركان الجيش ويرفض الاعتراف اساساً بهذه القيادة التي اخذت منه القرار العسكري المنفرد، وراح يتهم الاركان بتهم شتى اهمها الولاء لميشال عون حتى يبرّر عصيانه وتفرّده”.

لاحظ ان ضابط اللواء السادس “يعمل على توظيف بعض اجنحة حركة امل لمساندة تمرّده على القيادة”، وتدخّله في تشكيلاتها من دون ان يكون صاحب صلاحية، متحدّثاً ايضاً عن اعمال اراد بها “ارهاب القيادة مستعيناً بعناصر من حركة امل”، كي يستنتج من افعال عصام عطوي “ان ثمة قرار عصيان عسكرياً عبّر عنه امام ضباطه بأنه يقود ثورة بيضاء من ضمن القيادة. طبعاً لا نعلم لماذا؟ ولا نعلم حجم انحرافنا الذي يدّعيه وتغطية حركة امل له الذي هو بيت القصيد. وهذا ما لا استطيع مواجهته بمفردي، كما لا ارغب في ذلك. حركة امل عنصر اساسي في الصف الوطني المواجه لعون وإن نظرياً. انا مدرك حرصكم على الاستاذ نبيه برّي وحركته، ولا اريد ان اربككم في عملية قد تشقّ الصف الوطني كله في هذه الايام العصيبة، انما لا يمكن ان اقبل بالاستمرار في قيادة تملى عليها القرارات من ضباط وحركة سياسية حليفة او غير حليفة، ولا في قيادة لا تستطيع حماية ضباطها جسدياً على الاقل، ولا يمكنها ان تؤمن لهم السقف السياسي الذي يحميهم، ولا في قيادة لا يمكنها تشكيل ضابط من دون موافقة محمود ابو حمدان او عصام عطوي او اكرم شهيب او جورج حاوي او سليمان طوني فرنجيه”.

بعدما عَكَسَ فيها ليس عجزه عن مواجهة الخصوم هؤلاء فحسب، بل كذلك منعهم من التدخّل في قيادته وقراراتها، وقد اضحت فاقدة الدور والجدوى، امل من حكمت الشهابي في مساعدته على “جلاء موقف حركة امل من قيادة الجيش على نحو نهائي وحاسم، والا فأنا مضطر لتقديم استقالتي من قيادة الجيش متمنّياً تكراراً تفهّمي وعذري”.

كانت الذريعة المقابلة لعصام عطوي ان سامي الخطيب، خلافاً لتقليد متبع، لم يستمزج قيادة اللواء السادس في تشكيلات تتناول كتائبها، اجراها وأمر بتنفيذها للفور، فحيل دونها. من بينها تبديل كتيبة منوط بها الدفاع عن المطار، يُعهد في مهمتها في الغالب الى اللواء السادس، كي يحل محلها عسكريو لواء آخر. اثمر مسعى حكمت الشهابي تدخّل علي حمود، مساعد غازي كنعان المقيم في بيروت، زائراً سامي الخطيب ثم توسّطه لجمع القائد الرئيس بالضابط المرؤوس في حضوره وتذليل الخلاف.

على نحو لم يُعطَ اياه سامي الخطيب اذ وجد نفسه محاصراً بحكومة سليم الحص وتصلّب رئيسها حيال دوره، وتقاسمه الشارع والامن مع ميليشيا نبيه بري ووليد جنبلاط، ناهيك بمرجعية امنية طاغية لم يكن من السهل تجاوزها هي غازي كنعان، تصرّف ميشال عون على انه قائد حقيقي للجيش، طليق الارادة والمبادرة والقرار. تجتمع فيه السلطة السياسية الدستورية والقراران العسكري والامني. لم يسع وجود ميليشيا القوات اللبنانية الى جانبه في المناطق المسيحية اجتزاء سيطرته ورقعة انتشاره حتى انفجار حربهما في 31 كانون الثاني 1990.

حمله ذلك منذ اليوم الاول لترؤسه الحكومة العسكرية الانتقالية على اعادة تنظيم الاركان في اليرزة، وقد تفكك معظمها تقريباً بسبب تنوع الانتماء الطائفي لمناصبها الرئيسية، ومغادرة الضباط المسلمين الكبار اياها لملازمة بيوتهم او الانخراط لاحقاً في الوية سامي الخطيب. انهى مواقع رجال امين الجميّل وسيمون قسيس، وعمد الى بناء قيادة مختلفة بعدما احاط نفسه بكل صلاحيات الإمرة العسكرية والامنية، وتبعاً لها، التعيينات اللصيقة بها. عيّن جان فرح نائباً لرئيس الاركان للعمليات مع اشرافه على مديرية العمليات رغم تعيينه شارل عيد على رأسها، عبدالله خوري نائباً لرئيس الاركان للعديد، فؤاد عون نائباً لرئيس الاركان للتجهيز، الياس خليل نائباً لرئيس الاركان للتخطيط. جميعهم مسيحيون. سمّى جورج جبيلي مديراً عاماً للادارة نظير لطفي جابر، وألبر خوري مديراً للافراد، وحلّ عزّت الحداد في مديرية التوجيه خلفاً لرئيسه السابق فيها علي حرب ــــ وكان مساعده ــــ قبل مغادرته اليرزة.

بعدما اقصى مدير المخابرات العقيد سيمون قسيس وعيّن محله العقيد عامر شهاب في 26 ايلول 1988، ثلاثة ايام فقط بعد ترؤسه الحكومة العسكرية الانتقالية، اعاد تشكيل رؤساء بعض فروع الاستخبارات العسكرية في الادارة المركزية في اليرزة بادخال رجاله اليها: كرم مصوبع مساعداً لمدير المخابرات وفي الوقت نفسه رئيس فرع العلاقات العامة، فؤاد الاشقر رئيساً لفرع الامن العسكري خلفاً لجورج شهوان احد ابرز معاوني سيمون قسيس، جورج سمعان ثم من بعده انطوان ابوجودة رئيساً لفرع الامن الاستراتيجي. استمر ميشال رحباني رئيساً لفرع الامن القومي منذ حقبة سيمون قسيس قبل ان يقيله ميشال عون بعد اشهر، ويخلفه فايز كرم رئيس فرع مكافحة التجسس والارهاب، وكان بدوره خلف انطوان عبد النور في رئاسته، فاحتفظ فايز كرم برئاستي الفرعين، وعيّن ناجي عساف قائداً للسرية 7021 (التنصت اللاسلكي) خلفاً لطنوس معوض. لزم منصبه من الحقبة المنصرمة مارون ابو ديوان رئيساً للفرع الفني (التنصت السلكي) ثم في ما بعد رئيساً لفرع الامن التكتي خلفاً لنبيل شديد، بينما ترأس توفيق ضوميط فرع الادارة، ومنير عقيقي رئيساً لمكتب الاعلام الملحق بفرع الامن القومي. احتفظ اميل لحود برئاسة الغرفة العسكرية لوزير الدفاع، وعُيّن عادل ساسين قائداً للشرطة العسكرية خلفاً لطارق نجيم. اما رؤساء فروع مديرية المخابرات في المناطق، فاقتصروا على اثنين فقط، هما مَن كانا تحت سلطة ميشال عون في مناطق نفوذه: جوي كحالة في بيروت مستمراً منذ عام 1983 ايام سيمون قسيس حينما كان مساعداً لرئيس الفرع ميشال رحباني قبل ان يخلفه السنة التالية مع انتقال ميشال رحباني الى رئاسة فرع الامن القومي في اليرزة، وجوزف غصن في جبل لبنان الشمالي بعد انفصال جبل لبنان الجنوبي عنه. اما الآخرون في الشمال والجنوب والبقاع فتبعوا قيادة سامي الخطيب. عيّن ايضاً لويس خوري مديراً لمكتبه في قصر بعبدا، وميشال ابو رزق قائداً للحرس الجمهوري.

دوافع تكاد لا تحصى احالت اقصاء سيمون قسيس، وتالياً رجاله، قراراً حتمياً. في ظاهر الاجراء، الانتقال من حقبة تذهب برجالها مع رحيلها كي تأتي التي تخلفها برجالها. فُسّر التصرّف ايضاً بأن عهد امين الجميّل انتهى، وبدأ آخر لم يوحِ صاحبه، رئيس الحكومة العسكرية الانتقالية، بأنه في مهمة موقتة وقصيرة. ذلك ما جعله يستقر في قصر بعبدا واليرزة في آن.

منذ وجوده على رأس قيادة الجيش عام 1984، جمعت ميشال عون بمدير المخابرات علاقة ملتبسة. هو اولاً رجل امين الجميّل في الجيش الذي تجاوز قائد الجيش ابراهيم طنوس ثم يفعل على نحو مماثل معه هو. لم يفارقه كأسلافه يقين بأن مديرية المخابرات تراقبه وتتعقب نشاطاته وتتنصت عليه. كانت تلك حال فيكتور خوري مع جوني عبده، ومن قبل اميل بستاني مع غابي لحود. شكا ابراهيم طنوس بدوره من حال مماثلة. شعر القائد الخلف بتسلل العدوى الى مكتبه، فراح يتوجس من الكلام فيه بصوت عال، واثقاً من اخفاء اجهزة تنصّت فيه، مستعيناً في احاديثه مع زواره بالراديو، يدير موجاته على الموسيقى.

في ظنّ ميشال عون ان مسؤولية رئيس الاستخبارات العسكرية لا تقل عبئاً عن مسؤولية القائد بازاء انهيار السلطة المركزية لرئيس الجمهورية في بيروت في شباط 1984 بعد طرد الجيش من الجبل في ايلول 1983. كتم مدير المخابرات ورئيس فرع الامن العسكري عن قائد الجيش توقّع انفصال اللواء السادس عن إمرة اليرزة وانهيار اللواء الرابع في الشحار الغربي بعد اقتتال عسكرييه بعضهم ضد بعض. كلا الحدثين يدخلان في صلب صلاحيات فرع الامن العسكري، الرقيب على الثكن والافواج والقطع والاستخبار عنها ومراقبة انضباطها والتثبت من ولائها خصوصاً عندما تكون في طريقها الى مهمات خطيرة، كذلك التحقق من احتمال اختراقها وما قد يدور فيها في الخفاء. تأكدت دوافع كافية لاقصاء رئيس الاستخبارات العسكرية من منصبه من جراء عدم توفير المعلومات الامنية الكافية لتفادي هزيمتين عسكريتين متتاليتين، مكلفتين، ما لبث ان دفع ثمنهما ابراهيم طنوس وحده باقالته.

تأثراً بسابقتي اميل بستاني عام 1970 واسكندر غانم عام 1975، اضحى المخرج سهلاً ومبرّراً. حتى ذلك الوقت لم يسبق ان أُقصي مدير للمخابرات من منصبه جراء تقصير ارتكبه. شاع في اعراف علاقة رئيس الجمهورية برئيس الاستخبارات العسكرية انه يسمّيه فيُعيّن، الا انهما يرحلان معاً في نهاية الولاية.

في جانب معلن من اسباب اقالته، اتهام ابراهيم طنوس باصدار اوامر بقصف عنيف ومدمّر للاحياء الشيعية في الضاحية الجنوبية. على ان سيمون قسيس انبأه باكراً بانهاء دوره. ارسل اليه في 27 نيسان 1984 بريداً سرّياً برقم 132/ س خ “سرّي للغاية”، ضمّنه معلومات بلغت الى مديرية المخابرات نسبت الى عبدالحليم خدام مواقف ادلى بها في حديث خاص مع بعض مسؤولي منظمة حزب البعث في لبنان، الموالية لسوريا، اورد فيه “اصرار القيادة السورية على وجوب حل القضية اللبنانية انطلاقاً من نقطتين اساسيتين: اولاهما تشكيل حكومة اتحاد وطني برئاسة الرئيس رشيد كرامي بالذات دون سواه، وثانيتهما انشاء لجنة قيادية لاعادة بناء الجيش اللبناني على اسس جديدة”.

في البريد السرّي ايضاً ان حافظ الاسد ابلغ الى امين الجميّل في قمتهما الاخيرة في دمشق في 19 نيسان “وجوب ابعاد العماد ابراهيم طنوس عن قيادة الجيش بسبب سياسته التي ادت الى فرز الجيش”. وتبعاً للوثيقة نفسها، فإن موقف الرئيس السوري ناقض اقتناع الرئيس اللبناني بـ”تحميل وليد جنبلاط ونبيه برّي مسؤولية هذا الفرز، ورفضه انشاء اللجنة القيادية التي تعني في رأيه اعادة الجيش الى الثكن”.

مذ خلفه على رأس القيادة، لم يسع ميشال عون تعيين مدير جديد للمخابرات. استمر كذلك الرجال الرئيسيون المحيطون بسيمون قسيس الى جانبه. بيد انه اكتشف ايضاً ان علاقته بالرئيس لن تكون احسن حالاً. اعتاد الاجتماع الدوري به كل خميس، سرعان ما راح يدعوه الخميس الاسود. يشعر بوطأته قبل الذهاب اليه بالقول: الله يصبّرني. ما ان يخرج من المقابلة ويعود الى اليرزة يتنفس الصعداء امام ضباطه بالقول: خي… ارتحنا .

ساءه مراراً ان يسمع رئيس الجمهورية يخابره بعد اصداره “امر اليوم” في مناسبتي عيدي الاستقلال والجيش كي يقول له: هل اصبحتَ تخاطب اللبنانيين؟ رئيس الجمهورية هو مَن يخاطب اللبنانيين وليس قائد الجيش.

يجيبه: العسكريون وعائلاتهم لبنانيون. انا اخاطب العسكريين كي يسمع اللبنانيون. لا اتحدّث في قضايا عسكرية، بل في توجيهات عامة من حقّ اللبنانيين ان يصغوا اليها. لا بأس اذا سمعوها.

استفزه كذلك تدخّل رئيس الجمهورية في تشكيلات الضباط، اذ يعزو الصلاحية الى كونه القائد الاعلى للقوات المسلحة. في المقابل لم يكن ميشال عون يستبعد ضلوع مدير المخابرات في هذا التدخّل. سرعان ما اضحت العبارة تلك سبباً للاشتباك بين الرئيس والقائد.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى