«ج» رواية الاقتلاع والهجرة القسرية

هذا الكتاب ذو العنوان الغريب «ج» للروائي البريطاني هاورد جاكوبسون هو إحدى روايات القائمة القصيرة لجائزة بوكر المرموقة للعام 2014. أما عنوانه «ج» فعائد إلى أن والد بطل الرواية «كيفيرن» كان يطبق شفتيه كلما لفظ حرف الجيم في أول الكلمة فيصبح لهذا الحرف صوت غريب. وحين كان كيفيرن صغيراً قلّد والده في ذلك وأصبحت لعبة بينهما، وقد احتفظ الولد بهذه العادة حتى بعد أن كبر.

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، في كل منها فصول عدة. وفي سرد القصة ينتقل الكاتب من الحاضر إلى ماضي الأشخاص، أو ذويهم، أو إلى حادثة كان قد قطعها في نصفها فيستأنفها بعد عدد من الفصول، مثيراً بذلك فضول القارئ ليتابع قراءتها.

كيفيرن كوهين من سكان بلدة «بورت روبن» في جزيرة على شاطئ البحر. كان في العقد الرابع، وحيداً، غير سعيد، شديد الحذر والخوف، ينحت من الخشب ملاعق وشمعدانات وغير ذلك من تذكارات يبيعها للسياح. كانت النساء تتحاشاه لأنه صعب، منعزل وأكثر جدية من اللزوم، والعلاقة النسائية الوحيدة التي أمل أن تستمر كانت مع «أيلِن» التي جاءت إلى الجزيرة مع صديقة لها أكبر سناً. تمنى لو كانت أمه على قيد الحياة ليستشيرها في علاقته بإيلِن مع أنه عرف موقف أمه السلبي من الناس والحياة، إذ كانت تردّد دائماً أن من الأفضل أن لا يقدم الإنسان على شيء، أن يبتعد عن المشكلات وينتظر حتى يموت.

ذات يوم اكتشف كيفيرن علبة باسمه، وبخط والده. اطلع على الرسائل فيها ليكتشف أن والديه كانا ابني عم، تزوجا فأجبرتهما جدته لأمه على ترك مسقط رأسهما والانتقال إلى بورت روبنز التي كرهاها. وإذ استغرب أن يكون زواج ابني العم سبباً كافياً لهذا كله، افترض كيفيرن أن السبب الحقيقي قد يكون أن والديه أخوان وأن جديه لأمه كانا أيضاً ابني عم، فخافت جدته أن توريث الجينات نفسها سيؤدي إلى إنجابهما كائنات شاذة، ولذلك حثه والداه على عدم الزواج.

سافر كيفيرن وأيلِن إلى مدينة سياحية مجاورة، إلا أنها كانت خالية من السياح ما عدا بعض النساء المنقبات يسرن خلف أزواجهن، وبعض الرجال يدخنون النراجيل في قاعة فندق. فقررا العودة إلى البيت، وحين دخلاه وجدا أن أحداً كان قد دخله في غيابهما. لم يفتقدا شيئاً من موجوداته، إلا أن كيفيرن لاحظ أن شخصاً كان قد نام على سريره. فطلب من أيلِن العودة إلى بيتها عند صديقتها «إز». أما المخبر غوتكند فظلّ يرتاب في كيفيرن لاعتقاده أنه مثلي لأن في شقته كتباً كثيرة وأثاثاً ثميناً وأسطوانات وشراشف حريرية، وكأن الكاتب يوحي هنا بأن الجهلة والمتعصبين يعتبرون شاذاً كل من خالف الذوق الشعبي الشائع.

أحس كيفيرن بالضياع بعد أن غادرته أيلِن وشغله التفكير في من كان قد تمددّ على سريره في غيابه. وتذكّر أن والده كان أيضاً مثله دائم الخوف والحذر من غير أن يعرف هو السبب، إلى أن باح له والده حين كان على فراش الموت بأن له أخاً، لم يكن كيفيرن قد سمع بوجوده من قبل، وطلب من كيفيرن أن يسامح هذا الأخ بدلاً منه. علامَ؟ لم يعرف، وجلس يفكر في ما إذا كان لوالده سر أراد إخفاءه. بعد ذلك مرّ به أحد سكان الجزيرة وقال له إن اللحام كان يعطي والدته اللحم مجاناً لأن بينهما علاقة خفية ولعله كان والد كيفيرن. هل كان جاداً، أم يمزح؟ لا نعرف.

ثم نرى إز في المستشفى بعد أن صدمتها درّاجة أرادت قتلها لأنها تجرأت على انتقاد المجتمع الذي يرفض الاختلاف والتناقض وتباين الآراء والمواقف. إلا أن النتيجة الوحيدة لموقف المجتمع وأصحاب السلطة هذا، هو غضب الناس وتعاستهم، والبرهان على ذلك العنف والفقر في المجتمع بسبب ما حرموا أنفسهم منه. ولكن حين عادت إز إلى مكتبها وجدت عكس ما كانت تنتظر، إذ ساندها زملاؤها في مطالبتها بالتعويض عما سُلب من الأرض والحقوق.

بهذا الخبر المتفائل ينتهي الجزء الثاني من الرواية، لننتقل إلى القسم الثالث والأخير. حيث تقول أيلِن إنها حامل من كيفيرن، وتبيّن لها إز أن ما ورثته، ورثته من أمها، وهذه كانت قد ورثته قبلها من أمها، أي أن الإرث الجنيني يكون من خلال النساء، وبما أنه لا بد من رجل لتحبل المرأة فهي ترى أن كيفيرن أفضل من غيره بالنسبة لأيلِن. وحين أعملت كيفيرن بحبلها، ثارت ثائرته لأنه كان آخر من علم، وكان رافضاً الإنجاب كي لا يرث أحد الجينات التي ورثها هو، ابن سفاح القربى. فخرج إلى الشاطئ، سمع صوت أمه تناديه وتقول له أن يقفز، فقفز في الدوامة وغرق.

أكثر ما يلفت النظر في هذه الرواية هي الرموز والإشارات السياسية المباشرة وغير المباشرة مع أنها ليست رواية سياسية. سكان الجزيرة كانوا خليطاً من الأفريقيين والهنود والأوروبيين والعرب. وفي فصل «سمّوني اسماعيل» يُطلب من كل سكان الجزيرة القدامى المختلفي الأصل والمنشأ أن يغيّروا أسماءهم ليستبدلوا بها أسماء يهودية. محيت أسماؤهم القديمة من السجلات، وبذلك أصبحوا شعباً واحداً. وبعث على السخرية أنها أصبحت لهم سياسة خارجية، فيما كانوا جميعاً أجانب لم يصبح لهم بلد إلا حين أخذوا بلد غيرهم (ص91). ويسأل متسائل: كيف إعادة الأمن إلى عالم عرّضوه لخطر هجراتهم، واحتلالاتهم العسكرية وأسلحة الدمار الشامل؟ هذا، على الرغم من أن المثقفين والكتاب والصحافيين والفنانين انتقدوا ذلك. وواضح، بالنسبة لي، أن الكاتب يقصد إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة. إسرائيل احتلت فلسطين وطردت العرب، والأميركيون احتلوا الولايات المتحدة وأبادوا، أو كادوا، سكانها الأصليين. وفي مقطع آخر يتكلم على قوم أسسوا وجودهم على تدمير الذات والآخر عبر التاريخ، إلى أن اتحدوا وأزالوا انقساماتهم فهللوا لذلك على أنه برهان على حماية الله لهم لأنهم مميزون. (شعب الله المختار؟) ولكن الكاتب يضيف: «إلا أن هذه لعبة خطيرة سترتدّ ضدهم يوماً ما.» (ص119) أليس هذا ما حصل في الماضي ليهود أوروبا وقد يتكرّر؟

إلا أن الكاتب لا يوفّر العرب في انتقاده. فهم كانوا يحاربون في الماضي إلا أنهم الآن لا يفعلون شيئاً، ينتظرون مجيء الغربيين ليفرضوا عليهم قيمهم، ظناً منهم أنها لمصلحتهم، فيما هي في الحقيقة لمصلحة الغرب وحده. فتركهم الغرب يتعفّنون، أذلاء، يعيشون حياة عقيمة بعد أن استعبدهم. (ص144-147)

ويوازن الكاتب بين من يريد مجتمعاً متجانساً ولكن شرط أن يتمثل فيه كل تناقض وجدل وخلاف وتضارب، وبين من يرون أن المجتمع لا يكون متجانساً إلا إذا انتفى منه هذا كله. وبطريقة غير مباشرة يقارن هنا بين مجتمع ذي سلطة ديموقراطية وآخر تحكمه سلطة مطلقة. ومن تأييد أحداث الرواية جرأة «إز» على الانتقاد وما لاقته من تأييد، لا يخفى على القارئ ميل الكاتب.

ومن حسنات هذه الرواية الأخرى براعة الكاتب في تصوير نفسية بطلها كيفيرن. فحين يغادر شقته يتأكد مراراً من أنه قفل الباب، يفتحه ويعيد إقفاله، كذلك يتفقد مراراً صندوق بريده، يفتحه ويغلقه ثانية، ثم يعيد فتحه وينظر مجدداً داخله، يركع ليتأكد من كونه فعلاً فارغاً، ثم يغلقه. من خلال وصف هذه الحركات المتكرّرة يوحي الكاتب بالقلق الذي يلاحق كيفيرن ولا يفارقه، أو بالخوف. ممَّ كان يخاف؟ ماذا كان يتوقّع؟ هل كان ذلك ليعوّد نفسه على القبول بما لا يستطيع السيطرة عليه؟ أو برهاناً ملموساً على أنه لا يستطيع التأثير على نتائج أعماله؟ أو خوفه من أن يكون قد اقترف ذنباً، ولكن، أليس هذا الخوف بمثابة اعتراف بارتكاب الذنب؟ (ص194)

وفي عدم إفصاح الكاتب عما وراء هذا القلق أو الخوف، يشوقنا إلى متابعة الرواية. فعناصر التشويق فيها كثيرة. منها، مثلاً، حين سأل أستاذ الرسم أيلِن عما وراء الصور الغريبة التي ترسمها، أجابته أنها ترسم ما تراه. ولكنها في الحقيقة كانت تذهب في مخيلتها إلى مكان ما، إلا أنها لا تعرف اسم هذا المكان، ولا لماذا تذهب إليه، وهل كان ذكرى أم نذير شر؟ أم مجرد تخيّل؟ (ص55)

هذا، فضلاً عن الأسلوب الموفق. في كلامه مثلاً عن شخص ذليل، يقول الكاتب: «إن الإهانة كانت قوته اليومي.» (232). أو حين تحطمت دراجة «إز» وقضت شهرين غائبة عن الوعي، شعرت، حين استعادت وعيها «أنها أصبحت إنساناً بأطراف أكثر حدة، كلها مسامير.» (ص235). يمكن أخذ هذه العبارة بمعناها الرمزي، كأن هذه الحادثة جعلتها تنقم على من أصابها، وأراد قتلها، ومن ثم على الناس إجمالاً لأنهم يرفضون من ينتقدهم.

من هذه المراجعة السريعة يتضح أن للرواية مستويات عدة، أو، كما يكتب الكاتب نفسه: «لا حاجة بك إلى أن تكون عيناك مفتوحتين كي ترى الأشياء.» (ص238) إننا نراها بالبصيرة، أكثر مما نراها بالبصر.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى