حاتم الجوهري يدرس تأملات سارتر للمسألة اليهودية

في كتابه الجديد وتعاونه الثاني مع دار “روافد” بالقاهرة هذا العام، يقدم الشاعر والباحث د. حاتم الجوهري مفاجأة كبرى للثقافة والمكتبة العربية، وهي ترجمته لكتاب جان بول سارتر الذي حجب عن العربية لمدة تزيد عن السبعين عاما ولم يسبق ترجمته لها، وهو كتابه: “تأملات في المسألة اليهودية”.

وقد سبق المترجم الكتاب بدراسة قام بها بعنوان: “سارتر بين الصهيونية وسلب الحق الوجودي للفلسطينيين” اعتمد فيها على المراجع الإنجليزية والعربية والعبرية، بالإضافة لكتاب سارتر نفسه. حيث يشير إلى أن فيلسوف الحرية قد وقع ضحية لمنهجه الظاهرى (الفينومينولوجي) فى مقاربة الظاهرة الإنسانية، ووقف الحدس والموقف الذاتي والآني عاجزا إزاء تعاطف سارتر مع يهود فرنسا وما تركته بصمات النازية على أوروبا فيما بعد الحرب العالمية الثانية؛ وأثر ذلك الذي جعله يتخذ قرارا تعميميا بدعم حرية يهود أوروبا والعالم على حساب حرية العربي الفلسطيني ودعم الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

ظلت معضلة العربي – الصهيوني تطارد سارتر، ولم تنجح محاولاته بعد ذلك في التوفيق بين حرية هذا وحرية ذاك، ولم ينجح مفكرون عرب بحجم إدوارد سعيد في انتزاع اعتراف منه بحق الفلسطينيين في مواجهة الصهاينة.

يقول د. حاتم الجوهري إن أحد أهداف هذه الدراسة – والترجمة أيضا – كان “نقض الأساطير الأوروبية التاريخية الأساسية، الداعمة للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين، والمؤسسة له باعتباره فعلا مشروعا وإنسانيا وحضاريا (بوصفه يمثل في العقلية الغربية استجابة لاضطهاد أوروبا التاريخي لليهود ودورهم في مجتمعاتها، وردا لاعتبار الصورة النمطية السلبية لليهودي لدى المواطن الأوروبى). وهو التصور الذي مازال قائما للآن في بعض أدبيات أوروبا السياسية والتاريخية.

فكان السؤال الرئيسى للدراسة: لماذا دعم سارتر الصهيونية على حساب العرب الفلسطينيين؟ وكانت الفرضية الرئيسية للإجابة: تأثرا بحالة الاضطهاد وكنوع من التعويض عن اضطهاد أوروبا لهم.

من هنا اهتمت الدراسة بالكشف عن الأخطاء التي وقع فيها سارتر وغض بصره عنها إزاء المذابح والتجاوزات التي حدثت في حق العرب الفلسطينيين تحت هذا الزعم؛ كما اهتمت الدراسة – بدورها – بجانب فلسفي كان هو المدخل النظري الرئيسي لها، و”الفرضية المضادة” لأطروحة سارتر التي تفترض أن الصهيونية هي الموقف الوجودي الحر المشترك ليهود العالم؛ من خلال الكشف عن: “السلب الوجودي” الذي تعرض له الفلسطينيون، وحجم المأساة الوجودية التي تسبب فيها “اختيار دعم الصهيونية” للعرب الفلسطينيين، من جانب أوروبا وسارتر.

من هنا أخذت الدراسة اسمها الذي يعبر عن الفرضية المضادة لأطروحة سارتر، والمدخل النظري للدارسة النقدية للترجمة، تحت مسمى: “سارتر بين الصهيونية وسلب الحق الوجودي للفلسطينيين”.

ويضيف “في هذا المؤلَّف قام سارتر مدفوعا بفكرة الذنب تجاه يهود أوروبا، بتقديم شخصية اليهودي عبر التاريخ باعتبارها شخصية سلبية مظلومة ليست سوى رد فعل للآخرين. حيث اعتبر سارتر أن اليهودية ليست جوهرا في حد ذاتها؛ بقدر ما هي انعكاس سلوكي ومرآة عاكسة دُفع لها اليهود من خلال إصرار الآخرين على معاملتهم بشكل معين بوصفهم يهودا”.

وفي مقدمته يعطى د. الجوهري القارئ صورة شاملة للأطر والأفكار الرئيسية التي اعتمد عليها سارتر في كتابه، ويسرد النقاط الرئيسية التي ارتكز عليها في أطروحته لمقاربة المسألة اليهودية:

أولا: يعتبر مؤلف سارتر إجمالا نقدا لما يمكن أن نسميه: “الصورة النمطية لليهودي في أوربا” فلم يسع في مقاربته للمسألة اليهودية إلى البحث عن أسبابها التاريخية، إنما سعى لبحث ودراسة مظاهر وأشكال وتمثلات “الصورة الذهنية” المسبقة لليهود في أوروبا. لكنه وظف هذه الصورة لدعم الصهيونية، ووصفها فلسفيا باعتبارها ممارسة لحرية اليهود وتطور وعيهم بذاتهم.

ثانيا: الفكرة الرئيسية في مقاربة سارتر للمسألة اليهودية، اعتبار اليهودية ليست سوى “موقف” صنعه العالم لليهود من خلال معاملتهم باعتبارهم يهودا؛ وليس لليهود أي ذنب أو تدخل في ذلك إطلاقا. فاليهودية – عنده – موقف يخلقه العالم/الآخرون لليهودي ليس إلا، مسقطا عنهم المسئولية التاريخية كجماعة أو مجموعات وجدت عبر التاريخ. ومعتبرا – في هذا السياق – أن الصهيونية ستمثل “الموقف المشترك” الوجودي الجديد المضاد والحقيقي؛ الذي من خلاله سيرد اليهود على موقف الرد فعل والتهميش والقهر التاريخي – من جانب العالم – الذي يصورهم به سارتر.

ثالثا: قدم سارتر رؤيتين للشخصية اليهودية إحداهما سلبية، وسماها: “عدم الأصالة” أو التنكر ومحاولة إخفاء الهوية اليهودية، والأخرى إيجابية وسماها: “الأصالة” وهي التي تواجه العالم بحقيقتها اليهودية؛ واعتبر سارتر أن خط النهاية بالنسبة لـ “الأصالة اليهودية” هو تطور الوعي بالذات وصولا لحالة الموقف الجماعي القومي الذي تمثله الصهيونية.

رابعا: ربط سارتر في مغالطة سياسية ومنطقية واضحة بين اضطهاد اليهود في أوروبا، والحل المتمثل في الصهيونية واحتلال فلسطين. ربط بين الهولوكست وعقدة الذنب الأوروبية والفرنسية تحديدا، و التعويض الذي اعتبر أن الصهيونية هي الممثل له.

خامسا: بعد أن ربط سارتر بين اليهودية ومعاداة السامية؛ ثم بين معاداة السامية والحل الصهيونى.. أخذ الأمر لأبعد من ذلك بحيث أصبح رفض الصهيونية باعتبارها حركة عنصرية واستعمارية يساوي معاداة السامية! وكأن الصهيونية أصبحت إرهابا فكريا لمن يحاول نقدها.

سادسا: في مقاربة سارتر للمسألة اليهودية ومن ضمن المعادلات التي يصنعها؛ قدم ثنائية جديدة وهي: العالمي والذاتي. كان تعريفه لليهودي الذي يحاول التماس مع العالمي سلبيا، واعتبر أنه يهرب من ذاته ويبحث عن الحل في تعميمات لا جذور لها في الواقع، أما الذاتي فهو الذي كان يتماس مع خصوصيته ويهوديته ويحاول مواجهة العالم من خلالها، وبالطبع أعلى درجات الخصوصية من وجهة نظر سارتر سيفضي للتأكيد على الذات؛ من خلال دعم المشروع الصهيوني!

سابعا: من ضمن المعادلات والثنائيات التي قدمها سارتر أيضا، كانت ثنائية: الحدس – العقل، فقد اعتبر أن اليهودي الذي يحاول عقلنة الأمور والبحث عن آلية للحوار المنطقي مع أعدائه، يهرب من مواجهة حقائق الواقع الصادم وغير العقلاني؛ التي يجب أن تعتمد على الحدس والعاطفة والحس والانتفاض بقوة في مواجهة أعداء اليهودى.

ونلمح هنا إسقاطا لفلسفة سارتر الوجودية العامة؛ على موقفه المناصر لليهود والصهيونية، من خلال جدلية العقل والعاطفة، التي انتصرت فيها الوجودية للعاطفة والحدس بالطبع، كما تكرر هذا الإسقاط بين فلسفته الوجودية العامة وبين تحليله للمسألة اليهودية وانتصاره للصهيونية وتحيزه لها كثيرا.

ثامنا: قدم سارتر في ثنايا مقاربته دعما فلسفيا لفكرة العنف الصهيوني بشكل ضمني، حينما قال إن اليهودي يمكن أن يتحرر من خلال جدل مشابه لجدل “العبد والسيد” عند هيجل، أو من خلال المقاومة المسلحة ضد أعدائه.

وقد استهدفت الدراسة النقدية للدكتور حاتم الجوهري التي سبقت ترجمته عدة نقاط منها “تسليط الضوء على المنهج الانطباعي الظاهري الذي استخدمه سارتر ونقده، واعتماده على استطلاع مجموعة من الآراء الانطباعية والذاتية والآنية للأوروبيين من غير اليهود، والأوربيين من اليهود، دون أن يحاول الوقوف فعليا على نقطة انطلاق “بناء النموذج المعرفي” والمصدر الأساسي لهذه “الصورة النمطية” ليهود أوروبا التي وصفها سارتر بدقة واستفاضة، ولكن دون تأصيل أو بحث عن مصدرها”.

وقد قسم د. الجوهري الدراسة إلى خمسة مباحث قصيرة، واحتوى كل مبحث على عدة عناصر:

المبحث الأول كان تحت عنوان: مدخل وسياق تاريخي، واشتمل على العناصر: أوروبا وعقدة الذنب اليهودية، سارتر والجماعة (الطبقة) المضطهدة، المسألة اليهودية وطبقة سارتر المضطهدة، إشكالية تحرير المضطهَد أم تحرير المضطهِد، المعايير المنهجية لنظرية سارتر تجاه اليهود.

المبحث الثاني كان بعنوان: أسس نظرية سارتر فى اليهودية، واشتمل المباحث التالية: اليهودية موقف يصنعه الآخرون، اليهودي المضطهَد / الأعلى والطريق الجبري، مطلب التحرير الوجودي.

المبحث الثالث كان بعنوان: نقد مقاربة سارتر، واشتمل على المباحث: ظاهر المشكلة وجوهرها، سياق ظهور مصطلح معاداة السامية ونقده، الكرة في الملعب الآخر: الشعب التراسندنتالى.

المبحث الرابع: سارتر وإسرائيل، واشتمل على المباحث: إسرائيل تجسد ممارسة “الوجود الحر” لليهود، العربي/الفلسطيني امتداد للأوروبى المضطهد، العنف الصهيوني وسيلة للتحرر وخلق الذات اليهودية، تكئة مفهوم “معاداة السامية” لمفهوم “معاداة الصهيونية”، تقاطع الصهيونية الوجودية والماركسية. والمبحث الخامس والأخير جاء بعنوان: سارتر والعرب والموقف من الصراع، وشمل المباحث: مقاربة القضية من حيث هى قائمة، رفض الصهيونية التوسعية مع احتواء الحق الوجودي للفلسطينيين، توظيف اليسار العربي والصهيوني، دعم خيار السلام بمنطق تطبيع وجود إسرائيل، السكوت عن الدولة الفلسطينية.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى