حامل في عامها التاسع بعد الألف
وضع السيد عباس اللمسات الأخيرة على مائدة عشاء رومانسيّ يليق بالمصالحة بينه وبين امرأته الحامل في شهرها التاسع بعد حالة هجر وفراق.
سوف تأتي بعد قليل، ترك الباب نصف موارب، نظر في الساعة ثمّ دخل غرفة الاستحمام .
خرج مزهوّاً بعد حمّام منعش وقصد المائدة بعد أن سمع صرير الباب ,وإذ…… (كم أحب كلمة “وإذ” في الحكايات الشعبية)… وإذ به يشاهد رجلاً يجلس إلى المائدة في هدوء تام وكأنه من أهل البيت.
كان الرجل غريب الملامح، نورانيّ الوجه، شديد بياض الثوب، شديد سواد الشعر… ولا تبدو عليه علامات التطفّل .
لكنّ الأغرب من ذلك كلّه أنّه يتأبّط دفتراً ضخماً وسميكاً ويبدو شديد الحرص عليه، ثمّ أنه يضع قلم رصاص طويل فوق أذنه مثل نجّار أو بقّال… ممّا لا يليق بهيئته الوقورة.
ـ من أنت أيها الرجل، كيف تدخل بيتي دون استئذان… لعلّك أخطأت العنوان
– أنا لا أخطئ أبداً يا عباس-
ـ وتعرف اسمي كذلك !… هل التقينا من قبل؟
ـ لا. هذه أول مرّة وآخر مرّة إن شاء الله….أنا أعرف كل من هم على قيد الحياة… والممات وألتقي بهم كلهم دون استثناء.
ـ من أنت… وما قصّة هذا الدفتر والقلم… لعلّك جابي ضرائب؟
ـ أنا قابض الأرواح يا عباس، بعثتني السماء كي أقوم بهذه المهمّة حتى تتمكّن زوجتك من الولادة في اللحظة التي تغادر فيها أنت الحياة.
– كيف؟ لم أفهم..!ـ
– ـ لو نظرت في هذا الدفتر لقرأت أسماء كل من هم على قيد الحياة، وكلما دنا أجل واحد منكم يا معشر البشر، أمحو اسمه بهذه الممحاة التي في طرف القلم وأكتب من سيحلّ محلّه بخطّ قابل للمحو في كلّ لحظة … ولقد شاءت الأقدار هذه المرّة أن يحلّ ابنك محلّك… إنّ زوجتك الآن في حالة مخاض، فما رأيك؟
– ـ هل لك أن تمهلني بعض الوقت كي أرتّب بعض أموري وحاجيات المولود الذي لن أراه وبكل أسف.
– ـ لا بأس، ولكن اعلم أنّك لو تأخرت فسوت تموت زوجتك مع جنينها وتبقى أنت على قيد الحياة… أنا أعطيتك هذا الخيار دون سواك لأنك رجل شاعر واستثنائي.
– ـ شكراً لك … ما رأيك في تناول هذه التفاحة مع هذا الكأس؟
– ـ نحن كما تعلم، لا نأكل ولا نشرب، لا نكره ولا نحب… ولكن لا بأس دعني أجرّب في هذه الليلة الاستثنائية..
يقضم الملاك من التفاحة ويتناول رشفة من الكأس فيقع على الأرض مغشيا عليه ويسقط منه الدفتر والقلم اللذان يتحكّمان في ثنائية الموت والولادة.
أمسك عباس بالدفتر والقلم ولاذ بالفرار … من ساعتها توقفت الولادة والموت … وأصبحت البشرية تعيش حياة أزليّة لم تعهدها من قبل.
صار كل شيء لا معنى له في ظلّ حياة أبديّة سرمديّة خالدة لا موت فيها ولا ولادة : الحب، الحقد، الحرب، السلم، الزواج، الطلاق السياسة، العلم، الأميّة الفن، التديّن، الإلحاد، العمل، الكسل، النوم، الصحو، القوي، الضعيف…الخ
صارت البشرية تطلب الموت وتسعى إليه دون جدوى. لم يعد هناك من معنى لا للسموم ولا للأدوية ولا لأيّ شيء -حتى المواعيد- ما فائدة أن تقول لأحدهم أنتظرك عند الساعة الخامسة بعد ألفي عام مثلاً…. أو أن يحكم القضاء على مجرم بالسجن المؤبّد….!.
ظلّت زوجة عباس حاملاً تنتظر مولودها منذ بضعة آلاف من الأعوام واستحال الملاك (قابض الأرواح) إلى كائن نصف بشري يبحث عمّا افتقده بعد أن غضبت عليه السماء.
أخيراً سئم عباس حياة معلّقة بين الأرض والسماء واستجاب لاستغاثة البشر فسلّم الدفتر والقلم إلى صاحبه ورضي بالموت تحقيقاً لهذا التوازن العجيب في حياة البشرية.