حبكة غائمة في رواية “سراب”

 

مع تصاعد موجة الرواية الجديدة، لم تعد الحبكة محركاً للرواية أو نواةً تسحبُ نحوها مكونات السرد، بل تشظت الحبكة متناثرة بين أحداث مُتعاقبة، كما أنَّ الإهتمام بالصياغة أصبحَ بؤرةً في عملية الكتابة الروائية، لكن الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي ينظمُ برنامجه السردي بناءً على مركزية القصة المغلفة بالغموض ويتم توظيف الشخصيات السابحة في فضاء نصه بطريقةٍ تمكنُ من فك اللغز.

فإذا كان البحث عن مصير شخصية “إيزابييل” هو قوام روايته المعنونة بالاسم ذاته، ويؤسسُ ما تقوله الشخصيات الأخرى بشأن إختفائها حكاية الإطار، فإنَّ تابوكي يتخذ المسلك نفسه في روايته الموسومة بـ “سراب”، إذ يطعم الأجواء بالغموض ويضعُ الراوي بضمير الغائب القاريء أمام مشهدٍ لا يخلو من الغرائبية والوحشة وذلك عندما يسردُ تفاصيل فتح الصناديق المحملة بالموتى حيث تظهر القدمان في البداية، ويأتي الجزعُ تالياً وثمَّ الرأس وقد تطلبُ العملية تدخلاً إذا كانت الجثة نافخة كما يصفُ شكل الجثث المرشحة الناشفة، ولا يقابلها في الوضعية سوى دمى كبيرة أو ألعاب مسرح العرائس التى تركن في المستودع بعد انتهاء العرض المسرحي.

عليه فإنَّ هذا المكان يكونُ بمنزلة العتبة التي تنطلق منها الجثةُ في الرحلة النهائية، والحال هذه يقدمُ الراوي بنمط خبري معلومات عن تفاصيل التسجيل والترقيم وملء الإستمارة للجثة الوافدة، هذا ناهيك عن تعليق البطاقة بإبهام القدم. ومن ثمَّ يستبطنُ دواخل الشخصية التي تدير المشرحة قبل الإعلان عن اسمها مشيراً إلى السؤال الذي يشغلها حول المسافة الفاصلة بين الأموات والأحياء.

واللافت هو ما يتخيله مدير المشرحة عن كراهية الجثة لترقيمها في وجودها القديم. وتتحولُ عدسة السردِ لتحديد أجزاء المستشفى القديم الذي لم يبقَ منه إلا مشرحة وجناح التخدير، وتنتهى الحزمة السردية الأولى بالإشارة إلى نظرية سبينو الذي يرى  بأن موقع المشرحة يستهوي الجرذان.

رحلة

لا يتنحى الراوي عن وظيفته الإخبارية إذ يفتتحُ الحزمة السردية الثانية بالحديث عن زيارة سبينو مع عشيقته سارة إلى نادي السينما مظهراً  المكان الواقع في أعلى طريق “فيكو دي كاروبوناري”. ومن هنا يقع مشهد المدينة على مرمى النظر حيث يلوحُ الميناءُ وبرج الكنيسة، ومع مضي السرد قدماً تتوالى صورة مكونات الفضاء المكاني الأمر الذي يغذي التخييل البصري لدى المتلقي.

ولا يغيبُ في هذا السياق العنصر الوصفي لمظاهر الإنسان والمدينة، فما يقولهُ المتكلمُ عن صاحب المقهى وشكله وحركته البطيئة يخيلُ إليك بأنَّ هذا الشخص جزء من معالم فوضى المدينة. وما يضاعف من الشحنة البصرية هو رصد البحر الساكن والغارق في الظلام ولولا الأضواء المنبعثة من السفن كان من الصعب إدراك وجوده، ويلمحُ الراوي  إلى رحلة سبينو إلى القارة الأميركية عندما كان بحارا في شبابه لافتاً إلى رغبة سارة للسفر على متن باخرة تضجُ بالموسيقى والرقص. ويفصحُ الكلام المسرود عن قناعة البحار القديم بعدم جدوى العودة إلى مقاعد الدراسة فيما تؤكدُ سارة على ضرورة إلتحاقه بالدراسة لأنَّ الحياة طويلة، ربما أطول مما نتوقع لذا لا يجوزُ هدرها عبثاً.

إذاً فإنَّ ما يتواردُ ضمن هذا الجزء يدورُ حول حياة كل من سبينو وسارة واهتمام الاثنين بمتابعة الأفلام، هذا إضافة إلى إضاءة مستويات جديدة لشخصية سبينتو الذي أبانت رحلته برفقة سارة عن خصوصية فضاء المدينة. هكذا يكون السردُ أقرب إلى النمط التسجيلي.

إنعطافة سردية

ما أنْ تبدأُ حركةُ السرد في مستهل القسم الثالث حتى يدركَ المتلقي حدوث تحول في مناخ الرواية، وما يولدُ التوتر في جسد النص هو العودة إلى ما يسميه الراوي بالعتبة الأخيرة، أي المشرحة هنا يتبدى المكان بوصفه منطلقاً لتأثيث مقومات قصة تُحبكُ خيوطها على إيقاع درامي، وينحو السرد منحى إستقصائياً. ويزيدُ تفوق المؤلف في توظيف البعد الزمني من منسوب التشويق. فإنَّ عبارة “جاؤوا به بعد منتصف الليل” تحيلُ إلى أجواء الجريمة والمطاردات كما يضيفُ الإبهام والغموض إلى الأجواء. فالجثة التي ينقلها أفرادُ الشرطة إلى المشرحة تخترق صمت الليل وتصبحُ لغزاً بالنسبة لسبينو الذي يتابعُ فصل حلقاته المتداخلة. وينفتحُ النصُ على عالم الصحافة وتنضافُ الصيغة الخبرية إلى تيار السرد.

ما يهمُ صاحب “ساحة إيطاليا” هو تنظيم المادة السردية وفقاً لآلية التناوب بين رصد يوميات سبينو وتتبعُ حيثيات ملف الجثة المجهولة، ويأتي كل ذلك في إطار وصف ملامح الحاضنة المكانية. وكما أشرنا آنفاً فإنَّ التنوع في الشكل التعبيري ملمحُ بارزُ للرواية حيثُ تترشحُ المعلومات عن ملابسات مقتل الشاب من خلال مقالة منشورة في صحيفة “أخبار البحر” ويرجحُ سبينو أن يكونَ صاحب المقال هو الصحافي نفسه الذي قد أثار ضجة عبر اهتمامه بقضية الفساد في الموانيء.

تفيد المعلومات الواردة بشأن الحادثة أنَّ الشاب لقي مصرعه إثر مداهمة رجال الشرطة لشقة واقعة في الحي الشعبي. وفي الأثناء يصاب شرطي بالجرح، وما يعقدُ الملف هو مقتل الطالب الذي يدعى  كارلو نوبولدي برصاص زملائه الهاربين وهو ليس من سكان المنطقة. إستضافته جمعية دينية وشهدَ كل من يعرفه على حسن خلقه. وما أن يزورَ سبينو صديقه كورادو في مكاتب تحرير الصيحفة حتى يتفاجأ بأنّ ما يريدُ التقنيبَ عنه لم يعدْ موضع  اهتمام الصحافة وطمرته أخبار متراكمة لكن المقال الذي ينشره كورادو عن قتيل شارع كازه ديينته يثير إنتباه سبينو من الجديد على الرغم من عدم إعجابه بالعبارات التقليدية في المادة المنشورة.

يتم توزيع صورة القتيل في مخافر الشرطة بإيطاليا غير أن أوصافه لم تكن معروفة في ملفات الشرطة ما يعني عدم تورط الشاب في عمليات التخريب، والإرهاب. وهذا يفتحُ المجال لإختبار طريقة أخرى للملمة هوية الشاب، وما تكون الخطوة الأولى على هذا الصعيد سوى البحث في متعلقاته الشخصية، يعثرُ سبينو على صورة صغيرة في جيب القتيل ويقرأُ على المقلب الداخلي لخاتمه اسم وتاريخ “12/4/1939”.

إذاً تتدخل أصوات أخرى في حلبة السرد حيثُ يقدمُ الخوري في الدير الذي أقام به الشاب رأيه عن الأخير واصفاً إياه بالمهذب غير أنَّه لا يعرف مكان ولادته بالتحديد وما لفت إنتباه الخوري في شخصية كارلو هو غزارة مطالعاته، ولا يغلق الملف بموت الشرطي متأثرا بجرحه بل يتابعُ سبينو جمع المعلومات لدى المصور والخياط الذي قد فصل السترة التي كان يلبسها الشابُ، كما يستجوبُ سبينو الموسيقى ويستقصي عن أثر الشاب لدي المحاسب فالديني أيضاً ويجوبُ في المقبرة بحثاً عن نصب يعلوه تمثال ملاك مع بومة، لكن ذلك كله يؤدي إلى تقديم صورة واضحة حول شخصية الشاب، ولا ينجلي الغموض عن ظروف مقتله.

ما تخلصُ إليه من متابعة هذا النص الروائي هو حتمية تكامل المضمون والمبنى في صنعة الرواية، وما يضفي التشويق إلى تركيبة النص هو التنويع في الشكل والصياغة.

يذكر أن رواية “سراب” تتقاطعُ في نمط سردها الإستقصائي مع ما نشره “خافيير سيركاس بعنوان “جنود سالامينا”.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى