حديث السياسة حق وواجب أيضا

السياسة فن حكم المجتمعات وإدارة شؤونها، وليست حكرا على فئة دون غيرها، وإلاّ جنحنا نحو تلك النزعة الانتقائية ذات المنحى العنصري، كما هو الحال في الترتيبات الهرمية ذات المنشأ التفاضلي كما هو الحال في المجتمعات العبودية.

السياسة هواء نتنفسه، ماء نشربه ورغيف نأكله بالمعنى الحرفي ـ لا المجازي ـ للعبارة، وإذا كانت أنظمة الاستبداد تمنع تعاطي السياسة وتحتكرها على نفسها، فإنّ ذلك يفضح رغبتها في كم الأفواه والإبقاء علينا رعية لا مواطنين.

النظم السياسية العربية ـ ومنذ بدايات تشكل الدولة ـ تنزعج أيما انزعاج ممّن يهتم بالشأن العام (حقه الطبيعي والمشروع )، وتنعته بالسفالة والتدخل غير اللائق، وكأنه تجاوز خطوطا حمراء لا يسمح بالاقتراب منها، حتى أنّ الوالي أبي الوفاء المهندس في أواخر العصر العباسي، قد سأل أبي حيان التوحيدى في إحدى مسامراته: ” بلغني أنّ العامة تخوض في أمور الخاصة، فما رأيك؟”..هكذا قالها فيما يشبه طلقة الفزع.

إن ما تقدم من حكاية المهندس مع التوحيدي، يشبه صيحة فزع أطلقها الوالي المتعجرف لحماية سطوته من ” الرعاع ” كما يفهم من سياق استهجانه ومن ثم طلب النصح من جليسه ومسامره..مسامره الذي يشبه مثقفي السلطة في تراخيهم وتواطؤهم في العصر العربي الحديث.

يريد الحاكم على مر العصور أن يجعل من الحديث في السياسة ” ثمرة محرمة ” على بقية العباد، فيحوّط سلطانه بهالة وهمية وتحت ذرائع مختلفة، ويجعل لها كلاب حراسة وجلاوزة يقطعون لسان كل من تسوّل له نفسه الحديث في السياسة.

الاهتمام بالشأن السياسي والحديث فيه، حق وواجب، وفرض عين على كل مواطن، وليس “فرض كفاية” نوكله إلى المنتفعين من العمل السياسي، والذين يعتبرونه امتيازا لا مسؤولية.

السياسة في حياتنا تدخل من الشباك إن أنت أغلقت عليها الباب، وهي وفي أنبل تعريفاتها ” مسؤولية الفرد إزاء المجموعة ” كما يقول مفكرو عصر الأنوار، وليست كما يصورها المتقاعسون والسلبيون بأنها ” مقبرة للأخلاق”، وذلك في فهم خاطئ لما قاله تشرشل يوما حينما قرأ على قبر عبارة ” هنا يرقد السياسي والفاضل ” فعلق بقوله: ” عجبت كيف يرقد رجلان في قبر واحد”.

جاء الربيع العربي ـ ورغم كل تعثره وإحباطاته ـ ليقول أن لا خوف بعد اليوم، لكنّ حنين سلطات وهيئات عربية كثيرة إلى كم الأفواه والتوجس من الحديث في السياسة، مازالا قائمين مثل قول عبدالناصر إسماعيل، ممثل اتحاد المعلمين المصريين بعد نجاح ثورة يونيو: «هناك بالفعل تعليمات وصلت للمدارس بعدم الحديث فى السياسة، ومن يخالفها سيحول إلى التحقيق ” ورأى «إسماعيل»، أن «هذا القرار يدل على عجز فى التعامل مع قضية التعليم بصفة عامة، وفشل فى حل مشاكله، فمن الضرورى وجود مزيد من الحريات والشفافية فى التعامل مع أوضاع التعليم وأوضاع البلد ككل.

وعرفت الندوة إعلامية عقدها السفير الإسباني بالجزائر، أليخاندرو بولونكو ماطا، بكلية اللغات في جامعة تلمسان على هامش ملتقى دولي أدبي حول الأديب العالمي “سارفانتس”، حالة طوارئ لمحاولة منع الصحفيين من الحديث وطرح الأسئلة المتعلقة بالراهن السياسي، وهذا من طرف مسؤولين في الجامعة ومكلفين بالأمن، في حين أصرّ الصحفيون على الحديث إلى السفير بكل اللغات وفي كل المجالات. فهل أصبح السفراء ممنوعين من الحديث عن السياسة في تلمسان؟ وإذا لم يتحدث سفير دولة معتمد في السياسة، فهل يتحدث عن فنون الطبخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى