حدّثني العندليب
قيل ـ والعهدة على الراوي ـ أنّ العندليب يضرب عن الغناء حين يأتي له سيّده بأنثى يسكن إليها وتشاركه المأكل والمشرب في ” قفص الزوجيّة ” …. أو فلنسمّه مزاجاً ومجازاً بـ” قفص العصفوريّة ” .
ربّما أراد مالكه ـ من وراء تزويجه ـ أن يجزي له العطاء ويكافئه على فنّه، لكنّه وقع ـ عن غباء أو طمع ـ في عكس ما أراد الذهاب إليه … إذ يعتكف الطائر الصدّاح في عزلة واكتئاب كثيراً ما يودي بحياته فترث أرملته من بعده القفص بما حمل من رغد العيش ودلال المعاملة …وهي التي لا تمتلك من حسّ الطرب غير الاستماع إلى ذكرها حين كان يناجيها وهو في الأسر …وهي بعيدة عنه .
لم يكن غناء العندليب إذن إلاّ احتجاجاً على عزلته ومطالبة بنصفه الآخر، وحينما كان له ما يريد توقّف عن الشجن وصمت كما يصمت ناي عاد إلى أحراش القصب وابتعد عن أنفاس النافخين فيه ألماً وحنيناً.
قيل أيضاً ـ والعهدة على الراوي دائماً ـ أنّ العندليب هو ذاك الطائر الذي يغنّي وجناحه يردّ عليه مثل كورس أو صدى … تأمّلوا في هذا “المونولوج” المدهش قبل تراجيديات شكسبير ورائعة أوبرا ” زواج فيغارو ” التي هزّت عروش أوروبا الإقطاعيّة …وتتحدّث عن عادة اختلاء السيّد “النبيل” بعروس قنّه قبل أن يمنحه إياها زوجة .
أقرّ وأعترف أنّ مقاربتي ليست ” بريئة ” خصوصاً أولئك الذين أبدعوا أيّام حياة الضنك والحرمان و التهميش … ثمّ سكتوا حين استقرّت أحوالهم وودّعوا حياة الخشونة كما يودّع عندليب عزوبيته .
لماذا خبا ربيع تونس المسرحي بعد أن أزهر ربيعها الديمقراطي والسياسي ؟
أين مسرحنا الآن من تلك العروض التي كانت تشعل الخشبات تحت أقدام ممثليها، تبهر عشاق الفن الرابع في مشارق الأرض ومغاربها، تسيل الكثير من حبر النقد وتساؤلات المراقبين …
كيف لبلد يحكمه نظام بوليسي وتعربد فيه الرقابة أن يبهر العالم بسحر إبداعه الذي يمشي فوق الحبال المشدودة مثل بهلوان .. ولا يسقط في حقول الألغام ؟ أليس غريباً أن تضيق هوامش الحريات في العهد البائد ’ فتتسع معها رؤى الإدهاش ونوافذ الخيال .
انجلى الليل الآن هنا وتكسّرت القيود... فكبا المسرح الذي كان أوّل من يبشّر بالصباح الجديد ويحتفي ببهجة الحياة .
قد لا يختلف تونسيان في أنّ حرية التعبير هي غنيمتنا الوحيدة حتى الآن بعد ثورة 14جانفي … وهي التربة المطلوبة لنموّ زهرة الفنّ والإبداع …لكنها ظلّت تربة شبه مهملة دون زراعة أو سقاية ما عدا بعض البراعم الطريّة العشوائية من هنا وهناك …والكثير من طفيليات التهريج والإضحاك المجاني والركوب على النكتة السياسية .
ربما استعجلنا في الحكم وحكمنا على مذاق ثمار المسرح قبل نضوجها، ربما ليس بالحريات وحدها يحيا الإبداع، ربما يفرز هذا التهافت المسرحي نخباً وحساسيات جديدة تكمل مشاوير الرواد والمؤسسين فلا يقطع مسرحنا مع ماضيه …وهي العبارة التي ألفنا سماعها في الحراك السياسي …لكننا لا نريدها في المسرح.
هل نستعين بالنظرية الخلدونية في جدوى تلك العصبيّة ” الحميدة ” والتي من شأنها أن تحفظ الأمم والنعم من زوالها … أم أنّ البطون الجائعة لا تصنع ثقافة كما أنّ الأيادي المرتعشة لا تقوى على البناء …والأفواه المكمّمة لا ينصت لها التاريخ .
لكنّ طائراً أسطوريّاً آخر تحدّث عنه ” تينيسي وليامز ” وجعله عنواناً لملحمة المبدع .. وهو ذاك الذي يولد دون ساقين ولا قدمين، وقدره أن يظلّ يحلّق بكلّ ما أوتي من ريش وحبّ وشغف … لا يستريح ولا يحطّ إلا مرّة واحدة وإلى الأبد …
نعم إنّ المبدعين قوم لا يترجّلون إلاّ ليموتوا .