كتب

حروب الصّهيونية… فتّش عن «سفر يشوع»!

مرّة أخرى، حلّ الشهر «الفلسطيني» (أي تشرين الثاني/ نوفمبر) لأن التاسع والعشرين منه هو «يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني». أمر يسوّغ، في ظنّي، تخصيص هذه النسخة من «كلمات» لعرض مؤلفات عن القضية الفلسطينية أو ذات صلة بها. لعلّها أيضاً مناسبة أخرى لتذكير القرّاء بحقيقة أنّ المكتبة العربية لا تحوي أي مؤلّف عن «قضية العرب المركزية» صدر عن أي مؤسّسة ثقافية عربية في السنوات السبعين الماضية. فلسطين قضيّة شعوبنا العربية، نعم، وقضية أحرار العالم أولاً، نعم. لذلك نعثر على عشرات المؤلّفات ومئات المقالات والأبحاث الإبداعية الصادرة عنها، وبعضها بأقلام كتّاب «إسرائيليّين» أضحوا واعين للمأزق الصهيوني، ويحاولون البحث عن مخارج تنقذ بنية الكيان الصهيوني المصطنع… هذا في الوقت الذي تتبارى فيه مشيخات عصور ما قبل التاريخ في الغدر بفلسطين شعباً وقضيةً. نحن ندرك أنّها، بلا استثناء، ما زالت مستعمرات خاضعة للسيد الأنغلوأميركي، ضمن ما يُعرف علمياً بالاستعمار الخفي/ اللارسمي (informal empire ــــ انظر مقالنا «خفايا صناعة اتحاد الإمارات العربية» (1 و2) في عددَي «الأخبار» الصادرين بتاريخ 19 و20 آب/ أغسطس 2020). ونعلم أيضاً أن تقرّب تلك المشيخات من العدو الصهيوني الاستعماري الاستيطاني يتم ضمن إطار الصراع القاتل بينها على من يكون عميل (قل: كلب) لندن/ واشنطن المفضّل في المنطقة.

لقد أثبتت مختلف الدراسات الجدّية في الصهيونية أنّ جوهرها لاهوتي غيبي يرتكز إلى تأويل أساطير وخرافات واردة في السفر العبري، لا أول لها ولا آخر.

كتاب «جيل يشوع بن النون: الاحتلال الإسرائيلي و«السفر العبري»» (منشورات جامعة برينستون ـــ 2020) للكاتبة الأميركية ريتشيل هافرلوك الأستاذة المساعدة لمادة اللغة الإنكليزية في «جامعة ايلينوا» في شيكاغو، يضع النقاط على الحروف على النحو الآتي: ثمة مجموعة مترابطة من المصطلحات أخذها «الآباء المؤسّسون» من السفر العبري وأطلقوها على مؤسّسات كيانهم، ونحن نتحدّث هنا عن «سفر يشوع» الذي يأخذه كلّ من قرأه، ناهيك بمَن درسه، على أنّه تحريض على الاستيلاء على أراضي الغير والإبادة الجماعية. على سبيل المثال، المفردة «كيبوش» (kibbush) المستعملة حديثاً للإشارة إلى احتلال فلسطين، هي المصطلح التوراتي المستخدم لغزوات يشوع (يشوع 1:18). ذلك أن العصابات الصهيونية التي قادت اغتصاب فلسطين (طبعاً بمساعدة أنظمة سايكس بيكو العربية – ز م) اشتقّته من حروب يشوع المنهجيّة على الشعوب الكنعانية. أما كلمة الاستيطان في «سفر يشوع» (nahalah/نحله)، فهي بالمثل جذر كلمة المستوطنات اليهودية hitnahalut في «الضفة الغربية». من خلال استخدام المفردة، يقدّم المستوطنون «مدنهم المحصّنة» على أنها صور رمزية لقطع الأرض المقدّسة المقسّمة بين القبائل (يش 35:19). وهكذا، فإن النزعة العسكرية «الإسرائيلية» الحديثة لها صدى في «سفر يشوع»؛ (قام الصليبيون والحجاج الأميركيون والصهاينة الأوائل، من بين آخرين، بتأطير مشاريعهم على أنها مهام لأجل أرض الميعاد حيث قرأوا «سفر يشوع» على أنه يشرح أزمنتهم ويبرر حروبهم العدوانية تماماً كما فعل المستوطنون الأوروبيّون في الأميركيّتين وجنوبي أفريقيا وأستراليا، وكما فعل الصليبيّون في فلسطين وبلاد الشام).

إن التكافؤ غير المنفصل للغزو/ الاحتلال (كيبوش) والتخصيصات القبلية والاستيطان العسكري (نحله)، بالاقتران مع الكلمة نفسها للحدود (جبول)، تشهد على أن مفردات «سفر يشوع» أثرت قاموس العصبية اليهودية-الصهيونية. وقد خدم الكتاب العبري المقدس (التاناخ) مصدراً لغوياً وأنموذجاً أدبياً للمستوطنين اليهود والصهاينة في فلسطين.

كما تحوّل اسم العسكر المشاة «حلوصيم» (halutzim) في (يش 4:13) إلى مصطلح يُطلق على الروّاد الصهاينة في فلسطين وصار «التاناخ» قطعة أثرية وأساطير ووسيط بينهم وبين وطن (هم) الغريب.

إن أفضل ما يشهد على هذا الخلط، بل أكثر، المؤتمر الذي دعا إليه دافيد بن غوريون في عام 1958، وضم سياسيين وقضاة ورجال قانون وجنرالات وعلماء آثار وأهل اختصاص لاهوتيّين، ما يمسح المسافة بين التفسير السياسي والأكاديمي. كان بن غوريون يأمل في تعزيز الوحدة المجتمعية للمهاجرين والمهجّرين الجدد، وتعزيز هوية جماعية تستند إلى نماذج توراتية، ورأى أنّ رواية الحرب التوراتية تشكّل أساساً مثاليّاً لأسطورة موحّدة للهوية الجديدة، ما من شأنه تعزيز العزم الإسرائيلي-الإسرائيلي على خوض المعارك والتنمية وحل الانتماءات الشتاتية وغير الوطنية؛ أي أن العقيدة المركزية للمشروع هي أن الصهيونية مكّنت من قراءة تاريخيّة صحيحة للسفر العبري المقدّس.

ننتقل الآن إلى عرض مختصر للمؤلّف دوماً بكلمات الكاتبة وهي باحثة في الكتاب المقدّس، على دراية جيدة بمجموعة متنوعة من النظريات حول تأليفات «سفر يشوع» وتواريخها وتاريخه والنصوص المحيطة به.

يقوِّم الفصل الأول، (السطو على الأرض واللغة) الغزو كما هو موصوف في النصف الأول من «سفر يشوع». يظهر كيف أن قصة الحرب هي جماعة إسرءيل. يحاول «سفر يشوع» أن يوازن بين رواية «وطنية» موحّدة تجنّد مجموعات متباينة في مشروع مركزي، والاعتراف بالاستقلال النسبي وشرعية المجموعات التأسيسية. وعندما تتشكل الأمة من خلال صورة الجيش، تكتسب الجماعات المعارضة للمركزية صفة «أجنبية»، وتصبح المؤسسات القبلية التي تديرها النساء موضع شك. يتبع هذا الفصل الغزو ويحلّل ديناميّات تمثيله، ويقوِّم كيف أن حساب الحرب الشاملة يمثل أنموذجاً لاتحاد الجماعات المحليّة المتميزة.

يتأمّل الفصل الثاني (الكثير الكثير متبقٍّ للسطو عليه، واستمرار المحلّي)، في طبيعة اتحاد بني إسرءيل من خلال قراءة متأنية للتقاليد الجغرافية وقوائم التخوم في النصف الثاني من «سفر يشوع». تقول الكاتبة: أنا أزعم أن هذا السجل الخاصّ بـ «الأرض المتبقية» يشهد على المشهد الاجتماعي اللامركزي والمتنوع عرقياً وسياسياً الذي يسعى سرد الغزو إلى حجبه. يظهر أن قبائل بني إسرءيل تعيش جنباً إلى جنب مع مجموعة أخرى، حتى والقدس مقسّمة «حتى اليوم» (يش 15: 63)، ولا يوجد جيش وطني يصدّ المعارضين المحليّين، والنظام القبلي للمفاوضات والزيجات يحافظ على التوازن الاجتماعي المرتكز إلى الأسرة والذي تحافظ عليه المرأة.

الفصل الثالث (مجموعة دراسة [سفر] يشوع في بيت دافيد بن غوريون) يدعو القارئ إلى منزل رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون عام 1958 عندما تفكّر بعض «كبار العقول في إسرائيل» معاً في «سفر يشوع». أثناء تحليله لتفسيرات المجموعة ومناقشاتها، يسلّط الفصل الضوء على الدرجة التي انعكس بها المشاركون في حرب عام 1948 من خلال مقاطع في يشوع. وقد بيّنوا الارتباط الواضح بالفعل باسم عملية بن نون عام 1948 وهي معركة اللطرون لفتح الطريق إلى القدس المحاصرة.

يُظهر الفصل الرابع والأخير (قبائل أرض يشوع) إرث يشوع بعد عام 1958 وتفصيله في مجموعة دراسة بن غوريون في «إسرائيل». وصف عالم الاجتماع باروخ كيمرلنغ «المجتمع الإسرائيلي» بأنه يتميز بحكومة مركزية قوية وثقافة وطنية موحدة حتى عام 1967. في ذلك الوقت أدت ردود الفعل المتباينة للاحتفاظ بالأراضي المحتلة إلى تقسيم الثقافة إلى معسكرات متميزة، وغالباً ما تكون معارضة. يعتبر سطو موشيه ديان على يشوع لوصف احتلال الضفة الغربية على أنه تحقيق للكتاب العبري المقدس والصهيونية السياسية على السواء، وكيف استجاب التربويّون والمستوطنون واليساريّون والمحافظون الجدد لهذه الصياغة. بعد ديان، أصبح يشوع ذا أهمية متزايدة للمستوطنين الدينيين، مستشهدين بالمنحة التوراتية للأرض كميثاق لهم. هكذا، أعلنوا، مثل الصهاينة الأوائل، أن الكتاب العبري المقدس هو تفويضهم، لكنهم على عكس أسلافهم العلمانيّين (أي غير المتدينين – ز م)، يفضلون الحماس الصالح على تحقيق الأهداف العملية. في منظورهم، يقدم يشوع سابقة للاستيطان العسكري والتهجير المستمر للفلسطينيّين. تحكم عقيدة يشوع توسيع المشروع الاستيطاني، الذي يعتمد غالباً على الجيش الإسرائيلي لفرض مطالبه.

مهما كانت الوحدة الحقيقية أو المتصورة التي يمكن أن تفرضها رواية يشوع على السكان اليهود في الدولة المبكرة، فإنها لا تستطيع أن تنجو من الحرب والاحتلالات المستمرة، التي كشفت أو خلقت انقسامات بين مختلف فئات الدولة نفسها: مسيحانيو التلال والمستوطنون البرجوازيون العلمانيون، الفلسطينيون داخل «الخط الأخضر» وخارجه على السواء، الجنود والرافضون والمعارضون والمؤيدون لجدار الضفة الغربية (وبالطبع يهود الشتات، الذين يبدو أن صهيونيتهم ​​الليبرالية تؤيد احتلال عام 1948 «الأصلي» للأرض ونزع ملكية الفلسطينيين ولكنهم لم يفعلوا ذلك). ترى الكاتبة أنّه في ضوء هذه الانقسامات، «أصبح المجتمع «الإسرائيلي» يعتمد على الحرب المتكررة ومجمع جدار ضخم يهدف إلى إلزام «المجتمعات الإسرائيلية» بقدر ما يستبعد الفلسطينيين غير المواطنين».

تنهي الكاتبة مؤلفها بمناشدة «إنهاء هذه الحرب» وتقلّص كادرها من المستفيدين من الأوليغارشية. تظهر حججها المعيارية الأكثر وضوحاً واستمرارية فقط في الاستنتاج الموسع (بعنوان «إنهاء هذه الحرب») حيث قدمت مجموعة غير متوقعة (لهذا القارئ) من الاعتبارات: الأسئلة الجيوسياسية حول حقوق المياه والوصول إليها، وتكنولوجيا تحلية المياه، وخصخصة مستجمعات المياه، والانهيار الكارثي للمياه الجوفية الفاسدة، المصدر الرئيس لمياه الشرب في غزة حيث يظهر النصف الثاني من السفر مزيجاً من الشعوب والقبائل والمطالبات والأسر الموجودة في مناطق مشتركة.

من خلال توفير قراءة بديلة ليشوع، وجد «جيل يشوع» دليلاً على وجود مجتمع لامركزي يتألف من القبائل والعشائر والأسر التي تديرها النساء، وهو مجتمع له صلة باليوم عندما تتشارك شعوب متنوعة في الموارد المتضائلة لأرض فلسطين المنكوبة.

ملاحظة أخيرة أوردتها الكاتبة: بقدر ما تخلق قصص الحرب الأمة إلى الوجود، فإنها تنتهي أيضاً بالحفاظ على الحقائق الاجتماعية ذاتها التي تنوي aإنكارها. يحدث هذا بطرق مختلفة. بادئ ذي بدء، فإن تمثيل الخصوم الدائمين يسجل وجود جيران يقاومون بطريقة ما التشكيل الوطني. يشير إقرار هؤلاء الجيران إلى الطبيعة الهشة وغير الكاملة للتوقّعات الوطنية. ثانياً، يُظهر الإصرار على أن الجيش هو الأمة، وأنّ المجتمع المدني لا يمكنه وحده أن يدعم صورة جماعة موحدة. تلعب المعارضات الصارخة للصراع دوراً حيوياً في تخفيف حدة الوحدة الوطنية. أخيراً، تكشف الطبيعة الحماسية والتكرار الطقسي للسرد العسكري عن انعدام الأمن لدى الرواة الذين يواجهون أوضاعاً اجتماعية لا تتناسب مع الكيان السياسي الذي تم تصويره في قصصهم. لا تقتصر قصص الحرب على حشد القوات والمواطنين بروايات مؤثرة عن البطولة والتضحية فحسب، بل إنها تفرض أيضاً إطاراً قومياً على مجتمع غير متجانس. في الوقت نفسه الذي تحشد فيه حكايات المعركة ضد الهياكل الاجتماعية القائمة، فإنها تسجل عن غير قصد إخفاقات القومية/ العصبية. تتجلى الإخفاقات ليس فقط في النغمات الصارخة وتلميحات الإبادة الجماعية، ولكن أيضاً في القبول بأشكال محلية ثابتة للحكم.

إن خطاب الحرب يلعب دوراً مهيمناً في التشكيل الوطني. الأهم من ذلك، في هذا التشكيل، يمثل الجيش كياناً متماسكاً غير واضح في الحياة المدنية. لأن المجتمع – الذي هو دائماً غير متجانس بطبيعته – لا يدعم الادعاءات القومية، يصبح الجيش رمزاً رئيساً للأمة. جزء لا يتجزأ من هذا التكوين الوطني – والتشكيل العسكري بشكل عام – ينطوي على إنكار الحقائق الاجتماعية التي لا تدعم التماسك الوطني أو الوحدة العرقية اللغوية. مثلما تسعى التوغلات العسكرية للتغلب على المعارضة، فإن خطاب الحرب يشن معركة على مشهد اجتماعي لا يتوافق مع رغباته. ولأن الواقع الاجتماعي لا يزال بعيداً عن المفاهيم القومية، تصبح قصص الحرب المكان الأساس الذي توجد فيه الأمة بالفعل. مع تحمل عبء الحفاظ على وجود الأمة، تصبح قصص الحرب طقوساً علنية يتم تكرارها بشغف في لحظات وأماكن تبدأ فيها الروابط الوطنية في التلاشي. بالنسبة للعديد من الدول، إضافة إلى المجموعات المحرومة، تعمل قصة الحرب التأسيسية على فرض الجماعية وإثارة نوع المشاعر التي يمكن أن تدفع السكان إلى الانقلاب بنتائج عكسية ضد أولئك الذين يتشاركون المساحة نفسها.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى