حروب الفساد
ــــــ ١ ــــــ
القبض على وزير في الحكومة لم يحدث من قبل في دولة ذات نزوع محافظ مثل مصر.
ولهذا عندما ألقي القبض أمس على وزير الزراعة، كان قد أجبر قبلها بخمس دقائق على الاستقالة حسب توجيهات «السيسي». هكذا نشرت الصحافة خبر مغادرة «وزير» مقعده الحكومي، قبل أن يعلو عليه خبر القبض عليه بعد خروجه من مقر مجلس الوزراء بخطوات قليلة.
الأخبار التالية أكثر إثارة عن تغيير حكومي سيشمل بين 6 إلى 9 وزراء وردت أسماؤهم في «قضية الفساد الكبرى»، كما تصف الميديا جريمة تلقي الوزير وفريق عمله المقرّب رشوة لتخصيص أرض (مساحتها 2500 فدان) بمخالفة للقانون وبأسعار متدنية ووفق «أعراف» أقرَّتها عصابات الفساد أيام مبارك حيث تنتفخ أرصدة العناصر البيروقراطية من النظام بتسهيل مهام «الوحوش» في ابتلاع الثروات، وعلى رأسها الأراضي كنز الكنوز، في دولة تعيش على تدوير المال ببيع وشراء و «تسقيع» الأراضي (أي تجميدها حتى يرتفع سعرها إلى أضعاف مضاعفة..).
عبر هذه العلاقة بين «الموظفين» و «الوحوش آكلة الثروات» قامت شبكات وتكوّنت طبقات الحكم في العشرين عاماً الأخيرة من حكم مبارك.
هذه الطبقات عادت الآن إلى نشاطها بعد فترة خمول (إثر سقوط مبارك)، وانتعشت غريزة التلهف على مغانم الوظيفة وغنائم استقرار السلطة بعد ذهاب الإخوان إلى متاهتهم.
ــــــ 2 ــــــ
الفساد ليس غريباً في أنظمة الاستبداد الشرقي.
وهذا ما تكشفه التفاصيل التي تتسرّب برغم حظر النشر، وفي مقدمتها اكتمال دائرة الفساد بنجوم من الإعلام، بينهم الوسيط المباشر الذي صعد نجمه من جديد بعد قضاء عقوبة على جريمة رشوة (حين كان سكرتيراً صحافياً لوزير الثقافة الشهير فاروق حسني).. وهذا يعني أن هناك محاولات من السلالات القديمة للوسطاء في العودة، وبأن «تحالف» الإعلام مع أصحاب الثروات في مصر، والذي كان على هامش التحرّك في إزاحة الإخوان، يشعر بنوع من الاستقرار تجعله يعود إلى انشغاله في جمع الثروات وتكريس الوجود وإعادة تنشيط الطبقات الخاملة.
وتكشف أيضاً قضية لا وعي الطبقة البيروقراطية كما تشير نوعية الرشى التي حصل عليها الوزير ومساعدوه بين عضوية نادٍ رياضي، ومجموعات من البدل الفخيمة، وفيلا في المدن الجديدة، إلى جانب ولائم طعام، وتأشيرات حج وعمرة، وهو ما يكشف أن لا وعي البيروقراطي يرى أن «الرشوة» تكمل الوظيفة/ أو أنها «بدل طبيعة عمل» إلى درجة قبول الحج لعائلة كاملة من أقارب الوزير (16 شخصاً) بأموال «حرام» (كما تقول الثقافة الشعبية عن أموال الرشوة)… وأن وقوع موظف في «فخ» قضية لا يعني سوى أنه كبش فداء.. أو أنه «خائب»…
ويزداد الأمر بالنسبة لوزراء (ويضاف إليهم أسماء سياسية بينهم مرشح رئاسي سابق ذو صلات عربية قوية)…. رأوا أن من حقهم الحصول على «مغانم» لقربهم من المناطق الدافئة في السلطة.
ــــــ 3 ــــــ
… وعلى ما يبدو فإن هذه القضية ستكون طقس التدشين لحكم الرئيس السيسي.
فالحكّام في مصر يبدأون عهودهم بقضايا فساد تعلن «القطيعة» مع شبكات الفساد القديمة… وأن «الديناصور» الكبير ذهب وهناك «ديناصور» جديد يسن أسنانه بقضايا ذات رنين شعبي.
مبارك بدأ عهده بقضية ضد عائلة السادات، أعلنت ضمن ما أعلنت عنه توقف شبكة الفساد، لا منظومة تربيته وإنتاجه.
فالفساد توأم الاستبداد الشرقي، المعتمد على «ولاء» النخب المصرّح لها بتكوين ثروات، أو الأخرى التي من مهمتها حراسة «النظام» ورئيسه.
والسيسي حريص على إبعاد كل ما يفسد بياض بدلته، ويبالغ في إظهار رفض الفساد بما في ذلك «توفير أموال للدولة».. وهذا ما يجعله لا يتوانى عن سابقة اعتقال وزير بعد دقائق من إجباره على الاستقالة… أو التلويح بتغيير ثلث الحكومة لمجرّد التورّط في قضية فساد (تخص مدنيين في ظل الاعتماد المتصاعد على المؤسسة العسكرية)…
الحرب على الفساد (وإلى جانب تأكيدها على ثقة ونزاهة المؤسسات المنتمية للعسكرية مقارنة مع المدنيين) تنتمي غالباً إلى النازع الشخصي، أو النازع البطولي، التي تميّز أسلوب السيسي في الحكم حتى الآن، وفي المقابل لم تمتد إلى دعم قواعد الشفافية والمراقبة المجتمعية (عبر الإعلام وتحرير تداول المعلومات والاعتراف بقوة المجتمع المدني)…
إلى أين يمكن أن تؤدي الحرب على الفساد بهذه الروح البطولية/ التي تعتمد على طقس التدشين بقضية مثيرة؟
هنا لا تعدم الأخبار المصرية من روح النكتة، ففي موسم الانتخابات لا تكفي قضية واحدة لشغل الرأي العام، فقد انفجر بجوار القضية الكبرى، اتهام محامٍ بابتزاز رجال الأعمال في دعاوى قضائية. المتهم الأساسي في القضية هو رئيس جمعية «الحرب على الفساد».
صحيفة السفير اللبنانية