حروب المصطلحات (نسرين حرب)

 

نسرين حرب

من أبرز المظاهر التي ألصقت بحوارات القضية السورية، هي حروب المصطلحات والاختلاف على تعاريف أو تسمية الأشياء، ستجد أن حواراً عظيما بين "مفكرين مثقفين" في أغلبه سيبقى متمحوراً حول نقطة البداية وليس حول نقطة النهاية .
 فبمستهل حديثك مثلاً إن ذكرت أن ما يحدث هو "ثورة" سينظر الآخر تلقائياً لك على أنك معارض، والعكس أيضا فمن يبدأ حواره بمفردة " المؤامرة، الأزمة أو الحرب السورية"، فسينظر إليه المستمعون على أنه مؤيد، وسيدور الحوار كله حول برهنة أن هذا المصطلح خاطئ، إلا ما رحم ربي من الحوارات والجدالات التي لم تكن بيزنطية على ندرتها حول الحل، هذا الغرق بالمصطلح الموصوف للحالة سيوقف الإدراك والاستيعاب تلقائياً للجملة المطروحة ويوجه النظر لتوجيه التهم والشتائم المعنوية أو المباشرة وللشخصنة ولمزيد من التفكك والتعقيد حتماً، فتقف عنده كل القضية وكل الطرح.
فنحن كمن يتوقف عن الاستماع لفقرة عن فوائد الليمون مثلاً، فقط لأن المذيع قال ببداية حديثه أن الليمون هو خضار وليست فاكهة.
المعارضة والموالاة عادةً لدى الأمم، هما فكران متوازيان لايلتقيان، ولكنهما متوازيان يضمان بينهما الوطن ومصلحة الشعب، وعادة ما يصب كل من الطرفين فكرهمها وعملهما لمصلحة الشعب.
ولكن في الحالة السورية، أصبح الموضوع يرتبط ببعض الأحيان برؤية شخصية أو طائفية أو طبقية أو مناطقية للآخر بحد ذاته، وللمصطلحات بحد ذاتها، والهدف هو تحقيق الانتصار ولو كان داخلياً، وإثبات أنني على حق، وليس من ضمن الفكر أن أجد ما يحقق مصلحة الشعب مثلاً من خلال معارضتي أو تأييدي، بدليل قلة المبادرات الانسانية الفعلية للمساعدة ولو كانت معنوية، وكأن من يختار مصطلحاً آخر لوصف الوضع هو ممن يجب أن تسقط عنهم "الجنسية والوطنية فورا".
بنظرة عامة نجد فعلاً أننا شعب يؤسس انطباعه الأول والأخير على فن فحص المظهر. فمظهر الكلمة –المصطلح- يعبر، عنوان الكتاب يعبر، لباس الشخص يعبر، سيارة الشخص تعبر، اسم الشخص ومكان سكنه يعبر، عمله يعبر، تاريخه وماضيه يعبران، اللهجة تعبر، أو طبيعة عمله تعبر… وبالنتيجة فإننا نبحث عن أي شيء يعبر عن الشخص إلا أن نقرأ مايفكر به أو أن نستمع إليه أو أن نراه بأحد المواقف كيف يتصرف، أي أننا نترك الإنسان بعمله وعلمه أو حتى بغبائه ونتبع المعلومات المدونة على "الهوية" وعلى ماذا يستخدم من مفردات مثلاً.
السؤال لماذا؟
هل بسبب الدين؟ إن أغلب الناس لاتستطيع حتى الآن الفصل بين المتدين والمؤمن، فتعتمد على المظهر للتقييم، لا على منطق الأقوال ولا على نفعية الأفعال للمجتمع، ويصعب عليهم التفريق أن الدين بجوهره هو للله ومن ثم ماتقدمه للناس ومن ثم تأتي اللمسات الأخيرة التي تهدف منها إلى إظهار إخلاصك لتعاليم الله وليس إظهار إيمانك للناس، أما أن تبدأ من اللمسات وتكتفي فأنت كمن يهتم بتلميع تفاحةٍ عفنة.

هل هذا بسبب الاعلام؟ عمد الإعلام إلى غسل العقول سنيناً طويلة ، فعلى سبيل المثال نجد أن المثقف هو من يكون أشعث الشعر دائماً ويتكلم كلاماً للمثقفين ويرتدي نظارة، أماالغني  فملابسه جميلة ولديه سيارة فارهة، أما من يرتدي ملابس عادية وكان يمشي بالشارع فهو إذن شخص فقير معدم يستحق من "الجمهور" إما الشفقة والرغبة بالمساعدة، أو الخوف من أن يتحول يوماً  إلى وحش نتيجة كثرة الضغوط الحياتية عليه.

هل هذا بسبب التعليم؟ اعتمدت درجات التعليم بجزء منها  في المراحل الاولى على مظهر الطالب وتأدبه مع معلميه وتودده لأصدقائه، ومنحه درجات على ذلك رغم أن ذلك لم يبني بحق جزءاً من شخصيته على أرض الواقع، فتم تعليب عقلنا على أننا نفعل هذا لنحصل على درجات عليا ومكافأة اجتماعية ومعنوية من المدرسة والأهل، وليس لأن ذلك هو الأفضل لنا، وليس لأن ذلك ما يجب أن نطمح لنكونه، بشراً  جميلو المظهر والمضمون. لم يتم التوجيه لتلك النقطة بتاتا، بل التركيز على أن التميز هو بما تظهره ليس بما تكونه.

هل هذا بسبب الجهل ؟ يتبادر للذهن فوراً أن الجهل وقلة الوعي ترتبط بالفقراء أو ساكني القرى النائية، مع أن أغلب المؤثرين على المجتمع إيجاباً وفكراً وعلماً، كانوا من هذه المناطق المتواضعة، وأغلب حالات الجهل التي نصادفها بالحوار مثلاً نجدها مع أبناء الطبقة البرجوازية، هشة الثقافة، والذين تم تدريب معظمهم على أن الشيء الممكن شراؤه ممكن امتلاكه، وبعض حالات الجهل بالمناطق النائية بحالات جرائم الشرف في معظمها، وبالاستدلال على طيبة " غشمنة" في البعض الآخر.

أسباب لاتعد ولاتحصى لهذه الظاهرة العجيبة فعلاً، فأنا أنظر إليك على أنك عدو وأتجهز للانقضاض ونقض فكرتك التي قد تكون لصالحي وذلك فقط لأنك استخدمت مصطلحات للتعبير عنها أنا لا أحبها أو لا أؤمن بها، فأين تَقصي المضمون في كل ذلك إذاً ؟
لامكان للمضمون، فأنت إن آمنت فعلاً بمصطلح سترى كل المصطلحات الأخرى معادية، وكل الألوان الأخرى هي منافقة رغم أن ماتميز به السوريون هو تلك" الفسيفساء" التي ترمز لهم بشدة، لغزارة تنوعهم وتعدد طبائعهم وتفكيرهم ونظرتهم تجاه الأمور والحياة أو التصرفات أو المعتقدات أو القيم والمبادىء التي تنظمهم .
تبدأ المشكلة بحواراتنا بالتعاريف والمصطلحات وتنتهي – نادراً ماتنتهي – عندما نتفق على تعريف أو مصطلح أو توصيف موحد لما يحدث، وهذا حقاً مهين لدماء كل شهيد .
بالنهاية ومع التركيز أن الوطن " بترابه وأهله وممتلكاته" غير قابل للمساومة ولو بالحوار،  أنظر شخصياً لموضوع حرب المظهر الاصطلاحية بحواراتنا، على أنها تقليل من تضحيات الشعب السوري وآلامه. إنه إبخاسٌ حقاً لحق الوطن على مواطنيه بالمحبة والسلام والسعي لإيجاد دواء شافٍ له، ببساطة لأن اغلب الباحثين –المثقفين- غارقين بالاختلاف على تسمية عنوان الكتاب، ولم يكتبوا منه سطراً واحداً لتوصيف المرض أو لمراحل العلاج، بما يضمن عدم حدوث " انتكاسات مرضية" للوطن في المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى