حروب الموسّاد السرية تعاون استخباراتي اسرائيلي فرنسي بدأ مبكراً
جهاز الموساد هو أحد أجهزة استخبارات إسرائيلية ثلاثة، إلى جانب «شين بيت» و»أمان».وما يؤكده مؤلف هذا الكتاب هو أن الدعم الذي قدمته الأجهزة السرية الفرنسية والأميركية كان «حاسما» في مساعدة إسرائيل منذ تأسيسها، وهو يشدد على أن وزارة الداخلية الفرنسية وأجهزتها وفّرت تسهيلات لعمل «منظمة الهاغاناه» السريّة الصهيونية.
وزاد التعاون بين الجانبين إلى درجة أن فرنسا غدت منذ أواسط عقد الخمسينات من القرن المنصرم «الحليف الأقرب لإسرائيل في الشرق الأوسط». وكان «شيمون بيريز»، رئيس إسرائيل الحالي، قد لعب دورا أساسيا في تطوير العلاقات الفرنسية- الإسرائيلية.
وقد جرى التعاون بين الأجهزة السرية للجانبين ،خاصة على صعيد تبادل المعلومات حول ثوار جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ثم على صعيد محاولات اغتيال الزعيم العربي جمال عبد الناصر أو الإطاحة بنظامه.
أما مع «الأصدقاء الأميركيين» فقد بدأت العلاقات الوثيقة بين جهاز الموساد وأجهزة الاستخبارات الأميركية اعتبارا من عام 1956 على قاعدة تبادل المعلومات حول إفريقيا وحول محاولات الحصول على نماذج من الأسلحة السوفييتية.
يعد جهاز الموساد الإسرائيلي هو أحد ثلاثة أجهزة إسرائيلية للاستخبارات. الجهازان الآخران هما «شين بيت»، المسمى أيضا «شاباك» المختص بالأمن الداخلي، وتمكن مقارنته مع مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي «اف. بي. آي»، وجهاز «أمان» للاستخبارات العسكرية.
العلاقة بين هذه الأجهزة تتراوح بين «أشكال التعاون وأشكال «التنافس»، كما يحدد مؤلف هذا الكتاب، إيفونيك دونويل بوضوح، ثم يؤكد مباشرة أن الكثير من العمليات السرية الإسرائيلية اشتركت فيها هذه الأجهزة الثلاثة، وفي حالة فشل أي منها ،كانت الأجهزة المعنية تتبادل غالبا الاتهامات بتحمل المسؤولية.
ويشير المؤلف إلى أن جهاز الموساد معروف بتجنيده لمصادر معلومات واسعة الاطلاع، في جميع أنحاء العالم. بعض هذه المصادر انكشف أمره ،ولكن الكثير منها لا يزال طي الكتمان. وبكل الحالات يتم التأكيد أن التعاون مع الأجهزة السرية الغربية كان ضروريا بالنسبة للموساد الإسرائيلي، وخاصة التعاون مع الأجهزة السرية الفرنسية والأميركية.
الأصدقاء الفرنسيون
في صدارة ما يؤكده مؤلف هذا الكتاب أن الدعم الذي قدمته الأجهزة السرية الفرنسية لإسرائيل كان «حاسما» ،ومثّل بداية سياسة مستمرّة للجمهورية الفرنسية الرابعة ،التي أنهاها الجنرال شارل ديغول عام 1958 عندما أسس الجمهورية الخامسة ،التي لا تزال قائمة حتى اليوم.
يكتب المؤلف قائلا: «من الاشتراكيين حتى الديغوليين استفادت الدولة اليهودية الوليدة من تعاطف كبير لدى الطبقة السياسية الفرنسية». ويقدّم المؤلف في هذا السياق العديد من الأمثلة، التي تؤكد على هذا التعاطف ابتداء من عام 1946 حيث قدمت وزارة الداخلية الفرنسية لفريق من منظمة «هاغانا» السرية اليهودية إمكانية بثّ «الرسائل الرمزية- المشفّرة».
أثار ذلك التعاون آنذاك غضب البريطانيين حيث، عمل جهاز استخباراتهم المعروف باسم «ام-16» على كبح جماح هجرة اليهود إلى فلسطين ولذلك راقب نشاطات الوكالة اليهودية، فيما يتعلق بشراء السفن أو استئجارها. كذلك راقب الجهاز السري البريطاني نقل الأسلحة الموجهة لـ»الجيش الإسرائيلي المقبل» التي كان الجزء الأكبر منها ينطلق من المرافئ الفرنسية.
وأصبحت «المواجهة» بين جهاز «إم-16» البريطاني وجهاز مراقبة التراب الفرنسي «دي.اس.تي» مفتوحة. وينقل المؤلف عن «روجيه ويبرت» مدير الجهاز الفرنسي آنذاك قوله: «لقد وصل الأمر بي إلى اتخاذ إجراءات قاسية لصدّ النشاطات البريطانية غير المشروعة في فرنسا، وبالوقت نفسه لتأمين حماية شبكات نقل المهاجرين والأعتدة والأسلحة اليهودية إلى فلسطين».
وتحت عنوان فرعي مفاده: «الإسرائيليون والفرنسيون يتآمرون لقتل عبد الناصر». يشير المؤلف إلى أن فرنسا كانت في أواسط عقد الخمسينات الماضي «الحليف الأقرب لإسرائيل في الشرق الأوسط».
وكان المدير العام لوزارة الحرب الإسرائيلية الشاب «شيمون بيريز» المقرّب من بن غوريون يشرف على المفاوضات من أجل شراء أسلحة من فرنسا لإسرائيل ،التي لم تكن تستفيد آنذاك من السخاء الأميركي. وعمل أحد مستشاري بيريز، المدعو «جوزيف نحمياس» كعنصر اتصال مع السلطات الفرنسية.
ويقدّم المؤلف حشدا مثيرا للاهتمام من المعلومات حول التعاون بين الأجهزة السرية الإسرائيلية والفرنسية في نقل اليهود من المغرب إلى إسرائيل بحيث تجاوز عدد هؤلاء 60000 غادروا المغرب خلال عامي 1955 و1956. واعتبارا من اندلاع ثورة التحرير الجزائرية عام 1954 أراد الفرنسيون الاستفادة من جهاز الموساد في توفير المعلومات حول جبهة التحرير الجزائرية وحليفتها مصر.
مسلسل اغتيالات
وبعد فشل محاولات الأجهزة السرية الفرنسية اغتيال قادة الثورة الجزائرية عام 1955، عرضت عليهم الأجهزة السرية الإسرائيلية في العام التالي 1956 تقديم معلومات دقيقة، بواسطة مصدر مطّلع، عن تحركات القادة الجزائريين، بمن في ذلك أحمد بن بيلا.
وكان الإسرائيليون عام 1956 وراء مصادرة السفينة «أتوس» التي كانت تحمل علما سودانيا، وعلى متنها 70 طنا من الأسلحة الموجهة للثوار الجزائريين. وبعد أسبوع من مصادرتها اعترض الفرنسيون طائرة بن بيلا ورفاقه ،عندما كانت تحلق في الجو من المغرب إلى تونس.
ويؤكد مؤلف الكتاب أن التعاون بين الجواسيس الإسرائيليين والفرنسيين تركّز عام 1956 حول مصر. وقبل أزمة السويس قامت عملية «كوماندوز» ببرمجة خطة تستهدف تفجير إذاعة القاهرة. وجرى إرسال «شحنة متفجرات إسرائيلية تزن 15 كيلوغراما» عبر الحقيبة الدبلوماسية إلى السفارة الفرنسية بالقاهرة. وكان قد وصل إلى القاهرة قبلها «عميل إسرائيلي من أصل ألماني» تحت غطاء أنه ممثل لشركة «تلفونكن» الألمانية.
لقد أظهر المهندسون المصريون المشرفون على إذاعة القاهرة اهتمامهم بخدماته ورافقوه بزيارة لمنشآتهم. هكذا حدد مكان وضع القنبلة. لكن أوامر التنفيذ ألغيت مع قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس. هكذا مكثت لأشهر عديدة في قبو السفارة الفرنسية بالقاهرة عبوة ناسفة قادرة على تهديم البناية كلها.
اجتمع البريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون للبحث في سبل إعادة السيطرة الغربية على قناة السويس والتسريع بسقوط عبد الناصر. وعندما أعلن «الريّس» أنه سيلقي خطابا بعد أيام احتفالا بالانتصار خطط الموساد وجهاز الاستخبارات الفرنسي لتفجير المنصّة عند إلقاء ذلك الخطاب. وذات ليلة اجتاز ثلاثة عملاء للموساد قناة السويس ومعهم شحنة من المتفجرات «تي.ان.تي». واستقبلهم على الشاطئ الآخر للقناة فريق من العملاء الفرنسيين على متن سيارة رباعية الدفع بهدف نقل شحنة المتفجرات.
وصل الجميع إلى الساحة العامة في بور سعيد حيث «لغّموها» بـ300 كيلو من المتفجرات، بحيث يتم تفجيرها بواسطة صاعق فرنسي. لكن عبد الناصر لم يأت. ويؤكد المؤلف أن جهاز الموساد حاول بعد ذلك مرات اغتيال عبد الناصر، لكنه فشل في كل المحاولات التي قام بها أو خطط لتنفيذها. وبقيت الشحنة لسنوات «مدفونة» في الساحة ببور سعيد.
… والأصدقاء الأميركيون
عند نهاية المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي السابق في شهر فبراير 1956، قام الموساد الإسرائيلي بتسليم النص الكامل لخطاب نيكيتا خروشوف ،الذي وجّه فيه نقدا شديدا لـ»جرائم الستالينية» إلى أجهزة المخابرات الأميركية. وقد حصل الموساد على الوثيقة عبر سلسلة من الصدف ونقص حرص قادة الحزب الشيوعي البولندي مما أوصلها إلى يد صحافي بولندي من أصل يهودي ومنه إلى إسرائيل.
ومقابل هذه «الخدمة» الإسرائيلية، قدمت أجهزة الاستخبارات الأميركية لأصدقائها الإسرائيليين تجهيزات تجسس ذات تقنيات متقدمة ودورات تدريب وتبادل المعلومات حول العالم العربي. وكان الوسيط بين الطرفين هو «جيمس انغلتون» الذي قام بالمهمة منذ عام 1951 حتى مطلع سنوات السبعينات.
ومن المعروف أن العدوان الثلاثي الفرنسي- الإسرائيلي- البريطاني على مصر بعد تأميم قناة السويس تمّ إقراره دون موافقة مسبقة من الولايات المتحدة. وبدا أن الموساد «يكذب» على حلفائه الأميركيين. مع ذلك بقيت قناة السي. آي. ايه- الموساد هي أداة التواصل بين الولايات المتحدة وإسرائيل أثناء الأزمة، وخلف ظهر الدبلوماسيين.
ومما يؤكده المؤلف أن الأميركيين كانوا على دراية كاملة بـ»العلاقات المميّزة» بين الأجهزة السرية الإسرائيلية والفرنسية. لكنهم، أي الأميركيين، لم يكونوا «رسميا» على علم باتفاقات التعاون السري حول الملف النووي. لقد كانوا يعرفون في الواقع دقائقه منذ عام 1958. وكان الجزء الأساسي من الأبحاث النووية الإسرائيلية يجري في «معهد وايزمان» بتمويل من حكومة الولايات المتحدة أساسا.
الطيور على أشكالها
لقد أقام الموساد الإسرائيلي علاقات وثيقة مع الأجهزة السرية الإيرانية في عهد الشاه عبر المدعو «ياكوفا غرودي» الذي أصبح فيما بعد صديقا لأرييل شارون. ومع عدد من الدول الإفريقية بالتعاون مع الأميركيين الذين كانوا يريدون كبح التوسع السوفييتي في القارة السمراء.
وقد وتوطدت العلاقات الإسرائيلية مع اثيوبيا وساحل العاج ورواندا واوغندا وزائير. لكن علاقاتهم الأكثر قوة كانت مع نظام جنوب إفريقيا العنصري الذي كان بعض قادته من المتحمسين سابقا للنازية.
بدأ التعاون بين الموساد ونظيره الجنوب إفريقي «بوس» في مطلع عام 1964 حيث جرى تبادل التكنولوجيات والمعلومات حول الحركات الفلسطينية ذات العلاقة مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، حزب نلسون مانديلا، لكن استطاعت الاستخبارات الروسية، «اختراق» الجهاز الجنوب إفريقي عبر عميل هو «ديتر جيرهارت» الضابط الكبير في سلاح البحرية لجنوب إفريقيا والذي كان يتردد «بحكم عمله» على «مركز التجسس الهاتفي» الذي كان يعمل لحساب الحلف الأطلسي ويلتقط الاتصالات البحرية والغوّاصات في عموم القارة.
وزوّد «جيرهارت» السوفييت بكمٍ كبير من الوثائق. بكل الحالات استفاد الأميركيون كثيرا من التعاون «الاستخباراتي» الإسرائيلي- الإفريقي.
«هدية باهرة»
وفي عام 1966، حقق الموساد «ضربة» جديدة استفاد منها كثيرا أصدقاؤه الأميركيون. ذلك عندما استطاع «تجنيد طيار ميغ-21 سوري وإقناعه بالهرب مع طائرته إلى إسرائيل ،حيث استفاد منها سلاح الجو قبل أن يحوّلها كقطع غيار إلى الجيش الأميركي. كان ذلك عاملا أساسيا في حرب عام 1967»، كما نقرأ. ويضيف المؤلف: «أما الأميركيون الذين كانوا يحلمون منذ زمن طويل بدراسة تلك الطائرة فقد بهرتهم الهدية».
المؤلف في سطور
إيفونيك دونويل، مؤلف هذا الكتاب، هو مؤرخ فرنسي اختصاصي بعالم الاستخبارات والأجهزة السرية الكبرى والشهيرة في العالم. وفي مقدمتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي. آي. ايه» ،التي كان قد قدّم عنها، بالاشتراك مع المؤرخ الأميركي الشهير أيضا كأحد أهم الاختصاصيين العالميين في عالم الأجهزة السرية «غوردون توماس»، كتابا تحت عنوان: «الكتاب الأسود لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية» ،والذي تمّ التعرّض فيه للاغتيالات السياسية، التي استهدفت العديد من القادة الأجانب وللانقلابات العسكرية التي ساهمت فيها الوكالة الاستخباراتية الأميركية وجرت ترجمة الكتاب إلى العديد من اللغات الأجنبية.
و»ايفونيك دونويل» معروف أوروبيا وعالميا كأحد المرجعيات في عالم الظل والأجهزة السرية، وذلك بعد صدور عدة مؤلفات له تركز على هذا الميدان في عدادها: «التاريخ السري للقرن العشرين: مذكرات جواسيس خلال سنوات 1945 وحتى 1989»، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط سور برلين. ومن كتبه أيضا: «عام 1979: الحروب السرية في الشرق الأوسط» و»كيف تصبح جاسوسا»؟ الخ.
صحيفة البيان الأماراتية