حسابات بايدن مع روسيا.. ماذا سيفعل إردوغان؟
تكتسب جورجيا أهمية إضافية في حسابات واشنطن، وقريباً الرئيس بايدن، لأنها تحدّ جمهوريات الحكم الذاتي الروسية – معظم سكّانها مسلمون – وعددها تسعة، ومنها الشيشان وأنغوشيا وداغستان.
أدَّت أنقرة منذ انضمامها إلى الحلف الأطلسي في بداية الخمسينيات من القرن الماضي دوراً أساسياً في معاداة المعسكر الغربي، بزعامة أميركا، للاتحاد السوفياتي، الذي كان آنذاك مجاوراً لتركيا من خلال جورجيا وأرمينيا في الجنوب. كما كانت تركيا، من خلال عشرات القواعد الأطلسية والأميركية الموجودة في أراضيها (ما زال هناك 12 قاعدة منها)، مخفراً متقدماً للدفاع عن المصالح الغربية ومنع الاتحاد السوفياتي الشيوعي من التمدد جنوباً باتجاه العالم العربي والإسلامي.
وجاء سقوط الاتحاد السّوفياتيّ بعد الحرب الأفغانيّة وما نتج منه من ولادة الجمهوريات الإسلاميّة ذات الأصل التركي، ليمنح أنقرة المزيد من عناصر القوة في الحسابات الإقليمية والدولية، وخصوصاً بعد أحاديث الرئيس الراحل تورغوت أوزال عن “وحدة الأمة التركية، من البحر الأدرياتيكي (البوسنة وكوسوفو ومقدونيا) إلى سد الصين الحصين، مروراً ببلغاريا واليونان، حيث الأقليات المسلمة ذات الأصل التركي.
وقد حظيت مقولات أوزال بترحيب وتشجيع من واشنطن؛ العدو التقليدي للاتحاد السوفياتي، ومن بعده روسيا، التي أراد الغرب أن يحاصرها من خاصرتها الجنوبية، حيث الجمهوريات الإسلامية، ومن الغرب، حيث الدول التي احتضنها الحلف الأطلسي في العام 2004، وهي أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وجنوبا بلغاريا ورومانيا اللتين تطلان على البحر الأسود، الذي تسيطر تركيا على مضيقه الوحيد البوسفور.
أتى ذلك في الوقت الذي دفعت أوكرانيا وجورجيا ثمن مغامراتهما غالياً خلال ثوراتهما المخملية التي أدت فيها مؤسسات غربية دوراً رئيسياً، فقد أعلنت أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية استقلالهما بدعم من موسكو، وانفصلتا عن جورجيا، فيما كانت الحرب الأهلية في أوكرانيا سبباً لتقسيم البلاد، بعد أن صوّت مواطنو المناطق الشرقية من أجل الانفصال، ودفع ذلك روسيا إلى “ضم” شبه جزيرة القرم إليها في العام 2014.
وكما كان الوضع في الخمسينيات وما بعدها، فقد أدت أنقرة، وما تزال، دوراً ما في مجمل هذه التطورات التي أراد لها الرئيس إردوغان أن تساعده لدعم مشاريعه ومخططاته التي يبدو أنها تأثرت بالشعارات التي رفعها أوزال، فقد كان لأنقرة، وما يزال، علاقة مباشرة وغير مباشرة بمجمل تطورات جارتها جورجيا، التي يعمل عشرات الآلاف من مواطنيها في تركيا.
وتكتسب جورجيا أهمية إضافية في حسابات واشنطن، وقريباً الرئيس بايدن، لأنها تحدّ جمهوريات الحكم الذاتي الروسية – معظم سكّانها مسلمون – وعددها تسعة، ومنها الشيشان وأنغوشيا وداغستان.
وقد انضمّ الآلاف من مواطني هذه الجمهوريات وغيرها في آسيا الوسطى إلى “النصرة” و”داعش”، في الوقت الذي تريد واشنطن لها أن تساعدها مستقبلاً في مخطّطاتها لتضييق الحصار على روسيا، كما ساعدت فصائل “الجهاديين الأفغان” أميركا في تحقيق هدفها الأول، وهو إسقاط الاتحاد السوفياتي وتمزيقه، وفق نظرية الحزام الأخضر، فقد بات واضحاً أن واشنطن تخطط للعودة إلى هذا الحزام، وتريد لتركيا أن يكون لها دور أساسي في تفعيله، ولكن بعد الاتفاق مع إردوغان على صفقة شاملة تحقّق للطرفين الحد الأكبر من المكاسب المباشرة وغير المباشرة، وهو ما يستعدّ له الرئيسان بايدن وإردوغان عشية المكالمة الهاتفية بين الطرفين، والتي يبدو أنها تأخّرت بسبب كثرة المواضيع التي ستكون أمامهما وصعوبتها وتشابكها، وهما يحتاجان إلى بعضهما البعض.
ومقابل الدعم المالي والسياسي لإردوغان، الذي يبدو أنه في أمس الحاجة إليه، يريد الرئيس بايدن لتركيا أن تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، وتثبت ولاءها المطلق لواشنطن والحلف الأطلسي، الذي يبدو واضحاً أنه يستعد لمرحلة جديدة من الحرب النفسية والاقتصادية والسياسية ضد روسيا، وهذه المرة عبر حدائقها الخلفية جنوباً وغرباً، وهو ما يعني حاجتها إلى دعم الرئيس إردوغان بسبب علاقاته ودوره في جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية (كازاخستان وتركمنستان وقرغيزيا وأوزبكستان)، كما هو الحال في القوقاز، حيث ترتبط تركيا مع أذربيجان وجورجيا بعلاقات مميزة، وتسعى واشنطن لضمّها إلى الحلف الأطلسي، ومعها أوكرانيا.
وتكتسب أحداث أرمينيا في هذا التوقيت أهمية إضافية، بعد أن تحوّلت إلى ساحة مباشرة للتدخل الأميركي والفرنسي ضد الدور الروسي التقليدي. وتراقب أنقرة كل هذه التدخلات عن كثب؛ أولاً لأنّ أرمينيا دولة مجاورة لها، وثانياً بسبب المعلومات التي تتحدث عن احتمالات أن يعترف الرئيس بايدن في 24 نيسان/أبريل القادم بالإبادة الأرمنية في العهد العثماني إبان الحرب العالمية الأولى وخلالها، من دون أن تهمل واشنطن العلاقة المميزة بين أنقرة وكييف، وعلى حساب المخططات الروسية في أوكرانيا، إذ أعلن إردوغان أكثر من مرة رفضه قرار بوتين “ضم” شبه جزيرة القرم إلى روسيا، في الوقت الذي تتحدّث المعلومات عن تعاون واسع جداً بين تركيا وأوكرانيا في جميع المجالات، وخصوصاً الصناعات العسكرية، ومنها الطائرات المسيّرة والدبابات والصواريخ، مع دعم تركي كبير للأقليّة المسلمة في القرم.
كما نجحت أنقرة في إقامة علاقات مميزة مع معظم جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق ودول أوروبا الشرقية التي لها ذكريات سيئة مع موسكو، وهو ما قد يحتاجه الرئيس بايدن في حساباته المستقبلية لتضييق الحصار على روسيا داخل حدودها أو في أي مكان آخر، وبشكل خاص أميركا اللاتينية، التي نجح إردوغان في إقامة علاقات مميّزة مع أبرز رئيس دولة فيها، نيكولاس مادورو، رغم كلّ التناقضات الشخصية والعقائدية والسياسية بينهما.
وقد يحتاج الرئيس بايدن إلى دعم تركي لمخططاته ومشاريعه في الشرق الأوسط، وخصوصاً في سوريا، التي تحولت إلى خندق أمامي للدفاع عن المصالح الروسية في المنطقة، وعبرها في العديد من الساحات الإقليمية والدولية التي تنافسها فيها واشنطن وبعض العواصم الغربية، وأحياناً أنقرة، على الرغم من تناقض المصالح بين جميع هذه العواصم.
وفي جميع الحالات، يبدو واضحاً أننا لن ننتظر طويلاً حتى نرى ما سيطلبه بايدن من إردوغان، وكيف سيرد الأخير على هذه المطالب، وأهمها من دون شك العودة إلى السلوك القومي والديني والتاريخي التركي ضد روسيا. وقد سعى الرئيس بوتين طيلة السنوات الخمس الأخيرة، وبعد اعتذار إردوغان منه إثر إسقاط الطائرة الروسية، لسد الطريق على هذا الاحتمال، من خلال مجموعة من العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتشابكة مع أنقرة وانعكاساتها على التنسيق والتعاون والعمل المشترك في سوريا.
ومع المعلومات التي تتوقع للرئيس بايدن أن يصفي كل حساباته مع أنقرة، سواء كان سلباً أو إيجاباً، يجد الرئيس إردوغان نفسه في وضع لا يحسد عليه أبداً، بعد أن بات واضحاً أن خياراته محدودة، فإما يستمر في الوضع الحالي في العلاقة مع موسكو وواشنطن، وهو ما لن يقبل به بايدن، وإما يتمادى في تعاونه مع روسيا وحليفاتها، وهو مستحيل تماماً.
وفي هذه الحالة، لا يبقى أمامه، في ظلّ وضعه الصعب جداً داخلياً، إلا الاتفاق مع الرئيس بايدن على محاور المرحلة القادمة، وبالحد الأدنى من الخسائر في علاقاته مع روسيا التي لا يريد أن يعاديها، كما يرغب بايدن، الذي يعرف الجميع أنه يملك الكثير من الأوراق الخطيرة ضده شخصياً ورسمياً.
ويبقى السؤال الأهم: هل سيضع بايدن هذه الأوراق على الطاولة ويطلب حسمها أم سيطلب من إردوغان أن يستخدم ما يملكه من الأوراق في حدائق روسيا الخلفية، مقابل تقديم دعم مطلق له في حدائق الآخرين!؟
الميادين نت