ما هي فرص التسوية لوقف إطلاق النار في لبنان وغزة؟ ولماذا تبدو حسابات روسيا وإيران حيال الانتخابات الأميركية، وتعاونهما في الشرق الأوسط منطقية تماماً؟
اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية يفرض حسابات دقيقة لتجنُّب المتاهة الاستراتيجية لدى كلٍ من روسيا، إيران والولايات المتحدة.
فكيف ستنعكس المتاهة وحساباتها الدقيقة على الحرب في الشرق الأوسط؟ ولماذا هبّت رياح التشاؤم من موسكو بمعلوماتٍ عن انسداد أفق الحل في هذه الحرب؟ وما هي فرص التسوية لوقف إطلاق النار في لبنان وغزة؟ ولماذا تبدو حسابات روسيا وإيران حيال الانتخابات الأميركية، وتعاونهما في الشرق الأوسط منطقية تماماً؟
إنه موقف استراتيجي يتطلب أعلى مستوى ممكن من الإدارة العليا، إذ يمكن أن يؤدي خطأٌ واحد في الحساب إلى كارثة على صاحبه، وهذا ينسحب أيضاً على الولايات المتحدة، في حسابات المدى الطويل والصراع على النظام الدولي.
هنا نتدرج من فكرة إلى أخرى، في واحدةٍ من أصعب “الألعاب” الاستراتيجية. نبدأ من أجواء موسكو.
بالأمس، بثّت من موسكو أجواء سلبية حيال الحل في الشرق الأوسط، وتصدرتها معلوماتٌ مفصّلة أفصح عنها مسؤولٌ روسي لإعلاميين التقاهم.
التصريح عبّر عن مناخٍ روسي متشائم، لكنه طرح أسئلةً كثيرة، ربما يفيد السياق الآتي في توضيح خلفياتها التي لم تظهر في ما نُقل عن المسؤول.
قاعدة البحث الآن تنطلق من فرضية أن الصراع على النظام الدولي وصل ذروةً جديدة من التوتر القابل لانفجارٍ هائل في واحدةٍ من الساحات، وربما يتوسع إلى مواجهةٍ مباشرة بين قوى نووية كبرى.
كيف تنظر روسيا إلى مستقبل هذا الصراع؟ وكيف تقوّم مخاطره؟ وما الخيار الاستراتيجي الأكثر عقلانيةً لها؟
تخوض روسيا حرباً ضد الغرب في أوكرانيا، يقاتل فيها الجيش الأوكراني في أوكرانيا، وحلف شمال الأطلسي في العمق. مصداق ذلك توفير قوى “الناتو” الإحداثيات، المعلومات، الأهداف، التدريب، التمويل (تمويل الدولة)، التسليح (وتمويله)، إضافةً إلى حربٍ سياسيةٍ واقتصادية شرسة ضد موسكو.
رغم ذلك، تقترب روسيا من تحقيق نصرٍ لها في أوكرانيا. وقائع الميدان تؤكد ذلك، خصوصاً بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد العام الفائت، وأهم منه، فشل الهدف الأكبر للحرب، وهو ضرب الاقتصاد الروسي، وتالياً ضرب الاستقرار الاجتماعي، والذي بدوره كان يؤمل أن يؤدي إلى انهيار الاستقرار السياسي ونظام الحكم.
إذاً، ممَ تشعر روسيا بالخطر الآن؟ وعلى أي تطوراتٍ تراهن، وما علاقة ذلك بالشرق الأوسط؟
الإدارة الديمقراطية مدّت أوكرانيا بكل ما يمكن أن يساعدها على إلحاق هزيمة بموسكو. لم ينجح ذلك، لكن مشروع الديمقراطيين، الذي يركز على روسيا كخطرٍ داهمٍ على العالم الغربي، لا يجد أفقاً غير مواصلة الضغط هناك، مع تصعيد المخاطر من تحويل أوروبا إلى نمطٍ تسلحي جديد، وتجهيز ساحتها لتكون مسرح استنزاف روسيا، ثم يتكرر سيناريو الحرب العالمية الثانية: حربٌ تدفع فيها أوروبا وروسيا الكلفة كلها، وتنتصر فيها أميركا في الأمتار الأخيرة، من تمويل حفل نهاية الحرب وإعلان نصر التحالف.
بديل ذلك بالنسبة إلى الديمقراطيين (ولو لم يحركوا أوكرانيا) كان بروز نواة تحالفٍ (مقدّس) جديد، روسيا وألمانيا. قوتان إذا اجتمعتا استقلت أوروبا بقرارها السيادي لأول مرة منذ ما قبل هيمنة الولايات المتحدة على ضفتي الأطلسي.
تلك النواة، كان لها رمزٌ اقتصادي وليس أيديولوجياً كما في السابق، وهو خطوط “نورد ستريم”. هذا الرمز كان أول الأهداف الكبرى للحرب بالوكالة تلك.
تخشى روسيا السيناريو “الديمقراطي” إذا فازت هاريس، وهي تراهن على ترامب بوضوح. لماذا؟
بعيداً من اتهام ترامب بأنه دمية بيد بوتين، وهو اتهام شاع في أميركا خلال الانتخابات السابقة، لكن هناك ميلٌ واضح لدى المرشح الجمهوري لأن يقفل ملف الحرب ضد روسيا.
احترام ترامب لبوتين واضح. وتصريحاته حول نيته وقف الحرب في اللحظة التي يفوز فيها متكررة. بل إنه ذهب بعيداً في الإشادة بطبيعة الشعب الروسي المقاتلة: “لقد وُلدوا للقتال، هذا ما يفعلونه ويجيدون فعله، انظروا إليهم…” هذه كانت كلماته.
ترامب الآن (اختزالاً ولاعتباراتٍ مصلحية ومن دون افتراض التآمر المشترك) حصان روسيا في الانتخابات المقبلة، وفي حساباتها للصراع.
لكن روسيا تطور في اللحظة نفسها علاقاتها مع إيران على المستوى الاستراتيجي، فما علاقة الأخيرة؟ وكيف تختلف حساباتها؟
تصر إيران منذ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979 على عدم الانضواء تحت ظل قوة عالمية كروسيا والصين والولايات المتحدة. هي قوة تشعر بنفسها كممثلةٍ لحضارةٍ عريقة، ولها خطٌ أيدولوجيٌ ثوري يقبل اختلاط المصالح ويديرها بصبر، لكنه لا يقبل اختلاط السيادة. بمعنى أنه كان مستعداً على مدى عقود ليتحمّل ضيق الهوامش السياسية ودفع التكاليف الباهظة للحصار السياسي والاقتصادي (مجلس الأمن والعقوبات…)، على أن لا يضطر إلى رسم حدود لآفاق الثورة، تفرضها بالضرورة حسابات أي قوة كبرى حامية. أحداث الشرق الأوسط الحالية، وانفجار الستاتيكو الاستراتيجي السابق، ربما يكون أحد انعكاسات تمسك طهران بعنوانٍ كبير يمسّ مصالح القوة العظمى في العالم، في لحظة جرحٍ إمبراطوريٍ خطر يترجم من خلال تزايد التجرؤ على هيبة واشنطن. لكن هناك سابقةٌ مهمة.
إيران وأميركا توصلتا في عهد أوباما إلى اتفاقٍ حول البرنامج النووي، عُدّ نموذجاً للإبداعات السياسية لباراك أوباما، لكن ترامب نحر الاتفاق بعد عامٍ فقط.
تلك السابقة، ومرونة إيران الحالية، وعمق قوة ترشيح هاريس (الأوبامية)، يعطي فرصةً متجددة لاستعادة السابقة، في إطارٍ محدّث.
هكذا، فإن حسابات بخصوص الانتخابات الأميركية مختلفة عن روسيا، إيران (الإدارة الإصلاحية) تفضّل وصول هاريس. وقد أدارت خطواتها على هذا الأساس.
لكن، في اليد الأخرى، إيران والولايات المتحدة على تناقضاتٍ حادة في كل مكان تقريباً. كما روسيا والولايات المتحدة. وهذا يجعل من تفضيل هاريس منطقياً تماماً أيضاً.
وليزداد المشهد تعقيداً، إيران وروسيا تتجهان نحو شراكةٍ استراتيجيةٍ شاملة، بدأت مظاهرها السياسية والعسكرية تلمع في سماء الشرق الأوسط.
فكيف تدار هذه التناقضات؟ وخصوصاً في الشرق الأوسط؟ وما هي حسابات “إسرائيل” ضمن هذه الصورة؟
نبدأ من النقطة الأخيرة. حصل نتنياهو من الديمقراطيين على ما لم يحصل عليه أحدٌ في العالم.
مالياً وعسكرياً وسياسياً. يكفي أنه تغطّى بأميركا لممارسة حرب إبادةٍ كاملة الأوصاف في غزة، ويستكملها في لبنان.
هل هناك دولةٌ أو كيانٌ أو منظمة في العالم كله لديها حرية وغطاء ممارسة ما فعلته “إسرائيل” خلال العام الحالي؟ قطعاً لا يوجد.
لكن، مع ذلك، الديمقراطيون يضعون مواجهة روسيا أولويةً كبرى، على أساس الضرورات التي ذكرناها آنفاً.
وهم حاولوا خلال الأشهر الماضية تفجير قنبلةٍ أخرى في حضن الأمن القومي الروسي، وفي مجال الأمن القومي الإيراني، وفي قلب القوقاز، في جورجيا.
كانت جورجيا مرشحةً لتكون أوكرانيا الأخرى. جهدٌ حثيث بُذل هناك لقلب الطاولة ضد تحالف “حلم جورجيا” الحاكم، والذي أدار طوال عقدٍ من الزمن سياسةً متوازنة بين روسيا والغرب. الانتخابات بالأمس كانت محطة الفصل في هذا المسار.
جاءت النتائج لمصلحة “حلم جورجيا” وضد خيارات الغرب والرئيسة سالومي زورابيشفيلي، بنسبة 54% بينما تفتتت حصص القوى الأخرى.
دول الغرب أصدرت بياناً مشتركاً رافضاً للاعتراف بالنتيجة، ودعت الخارجية الأميركية إلى فتح تحقيقٍ بدعوى تزوير الانتخابات.
فشل الهدف الجديد، وعاد التركيز لدى الديمقراطيين على مد الاستنزاف في أوكرانيا زمنياً، من خلال عنوان تسليم صواريخ بعيدة قادرة على ضرب العمق الروسي.
سارع بوتين فوراً إلى تأكيد أن أوكرانيا لا تمتلك القدرات التقنية لفعل ذلك، وأنه إذا حصل، فسيكون اعتداءً مباشراً من “الناتو” ضد روسيا. وبالطبع، هو لا يرغب بحربٍ مباشرة بين روسيا والحلف، ويحاول تجنّبها، ما يجعل مراهنته على ترامب منطقيةً وضرورية.
لكن مصلحته في الشرق الأوسط تقتضي ألّا تتعرض إيران لأي خطرٍ حيوي. وهذا بدوره يفسر تعزيز التعاون معها، وتهديد بوغدانوف قبل أيام من الضربة الإسرائيلية بأي استهدافٍ للقدرات النووية الإيرانية.
لكن “إسرائيل” أيضاً ليست بعيدة من الرهان المتناقض على الانتخابات الأميركية، كيف؟
في الأشهر الأخيرة، وطّدت الإدارة الديمقراطية علاقاتها بيوآف غالانت. وهو لم يوفر فرصة لإحراج نتنياهو، تمهيداً لإبعاده. فوز هاريس يعزز فرص قيادة وزير الدفاع المرحلة المقبلة في الكيان.
نتنياهو من ناحيته، يراهن على فوز ترامب بوضوح، ويتصرف منذ أشهر على هذا الأساس، لكن مع الاستفادة من ابتزازه لبايدن وحصده للمكاسب والمساعدات منه. الجرائم الأخيرة خلال الصيف كانت بأسلوب ترامب، وبناءً على أمل وصوله مجدداً إلى البيت الأبيض.
فإلى أي نتيجة يتطلع نتنياهو؟
يتمسك نتنياهو الآن بجميع الأوراق معاً. مماشاة الديمقراطيين في الأسابيع الأخيرة قبل الانتخابات، فلربما فازت هاريس، مع إبقاء خيار مواصلة الحرب بيده، تحسباً لهامشٍ جديد قد يوفره فوز ترامب.
لذلك، فإن الاتجاه الموثوق للأحداث والمفاوضات بخصوص لبنان وغزة وتوسيع الحرب في المنطقة سيظهر بعد الأسبوع المقبل.
لكن، في الوقت نفسه، تجتمع حسابات روسيا وإيران على منع الأميركيين من تغيير الخريطة الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
إذ إن نتنياهو لا يزال يتمسك بالأمل بأن يذهب معه رئيس أميركا الجديد لضرب إيران. فالضربات المتبادلة (خصوصاً تلك التي تلقتها إسرائيل في الأول من أكتوبر) أظهرت أن أي حربٍ إسرائيلية على إيران من دون مشاركةٍ أميركية ستعرض الكيان لدمارٍ كبير يضرب أسس استمراريته وقدرته على تأمين المستوطنين وجذب المزيد منهم.
الميادين نت