حسن سلامة.. حرّ ولو في العزل الانفرادي
تتحوّل كل صفحة خلال قراءتنا تجربة حياة الأسير الفلسطيني حسن سلامة في زنازين السجون الإسرائيلية، إلى أداة صفع لمعنى مفردات لا تني تنخر أدمغتنا عن حقوق الإنسان. بعد تقليب الصفحات، ستهبط التساؤلات والمقارنات بين شتى ضروب الفلسفة وشكوكها ويقينياتها واللايقين في تنوّع مدارسها أمامنا. ثمة تساؤلات تأخذنا إلى حيث فعل الإيمان بالله، ومعنى اليقين، وحتمية الصبر والاحتمال. وثمة بلبلة تحثُّنا على تفحُّص معنى الإرادة والقدرة على اكتشاف الذات، وحمولتها من قضايا كبرى، إضافة إلى ظنون عمّا إذا اقتصرت هذه الإرادة الجبّارة على الإنسان الفلسطيني تحديداً، والأسير الفلسطيني خاصة، مع عدم استثنائنا أوجاع أي أسير في أي سجن من سجون هذا العالم المتوحش.
«خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ» مذكرات الأسير الفلسطيني حسن عبد الرحمن سلامة في العزل الانفرادي داخل السجون الإسرائيلية (صدر حديثاً عن «مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات» – بيروت). حسن سلامة هو القيادي العسكري في «كتائب عز الدين القسام»، محكوم بـ 48 مؤبداً و35 عاماً قضى منها خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ (ما زال في الأسر) وهو منفّذ عملية «الثأر المقدس» عام 1996 ردّاً على اغتيال يحي عياش.
مذكرات تتخطى عالمين متناقضين بين وحشية عدو و«سماوية» إنسان. إنّها تجربة تعقد اللسان، وتقعدنا أمام مفاجآت صفاء روح هذا الأسير، وسلامة دماغه بما اصطفاه من تركيز على تجربة عزله الانفرادي، فجعلنا نكتشف عجزنا في المخيال، وعجز ضمير البشرية من أنظمة وسلطات وأحزاب ومنظمات غير حكومية «تعلك» دروسها اليومية بإتقان عن حقوق الإنسان.. لكن أي إنسان تقصد؟ وهل حسن سلامة من غير فصيلة الإنسان؟
سلامة الذي اعتقل يوم 17/5/1996 انتصر. انتصرت له الحركة الأسيرة في سجون العدو الإسرائيلي يوم حققت «حلمه» بالانتقال بعد 14 عاماً من العزل الانفرادي إلى السجن الأوسع مع ما تقتضيه شروط السجن! يا الله! هل هذا هو تعريف شعور الفرح والسعادة؟ ومن أي صنف تلك الزغرودة التي أطلقتها والدته عندما علمت بانتقاله من العزل في السجن إلى السجن في السجن!
يقول سلامة عن العزل الانفرادي بأنّه «معركة حقيقية وشرسة نخوضها مجردين من كل شيء إلا من إيماننا بالله»، لكنه خاضها «باستنفار كل طاقتي، ومكنونات نفسي، وبدء حياة التحدي والصمود والسخرية من كل ما أتعرض له»، سارداً بشفافية تثير الإعجاب تلك الأيام التي مرت عليه «فلا تستطيع تحديد موقع لك سوى عنوان السجن الكبير». يحكي عن تشجيع غفران الزامل التي «وافقت أن تقرن حياتها بحياتي فأنقذتني» (مع الإشارة إلى أنهما لم يلتقيا بعد). يكتب حسن: «أجمل ما حدث معي أنني كنت في عزل عسقلان عام 2009 وجاء إلى العزل الرفيق أحمد السعدات (أبو غسان) أمين عام الجبهة الشعبية وكنا نتحدث ولا يراني ولا أراه، وكل منا سمع بالآخر». كما يتحدّث عن «العزل نفسه المبني بطريقة كل ما فيها ضد الإنسان»، وعن أنواع التعذيب فيها، وأسباب عدم النوم، ومنع زيارة الأهل (عشرة أعوام لم يرَ والدته في العزل الأول، ولا أكرم شقيقه الأسير في المستشفى)، عن المشي بقيود السلاسل الحديدية في اليدين والقدمين، «فكان التحدي كأنني أكتشف ما أملكه من قوة وإرادة وتصميم على أن أبقى قوياً، فكنت كثيراً ما أعود إلى زنزانتي وساقي تنزف دماً»، وعن «تعرضي للضرب والكيس في رأسي»، وعن الفئران والصراصير والحشرات و«تنظيف كل زنزانة نقلوني إليها والتي لم نستطع التحرك فيها»، وعن «العيش في زنزانة واحدة مع أخي يحي السنوار»، وعن «الأسير مروان البرغوثي في الزنزانة المجاورة ونصيحته لي»، وعن «سجناء جنائيين من العرب واليهود من المافيات وقد تعاطفنا مع اليهودي الذي توفى في السجن لأنه كان يساعدنا باستمرار»، وعن الحياة في أقسام العزل «وهي غاية في الصعوبة وتحتاج لقوة إرادة، وقوة شخصية، وقناعات ثابتة، وفهم عميق لطبيعة صراعنا مع المحتل».
كما يكتب عن «طاقة المرحاض وقد أسميناها الفايسبوك لأنها فتحة التواصل سمعياً بيننا»، وعن كشف تحدث عنه للمرة الأولى يتعلق «بتواصله مع القائد محمد الضيف والاستجابة له بالتواصل مع المجاهدين في الضفة الغربية، وقد قمت بذلك، وأوصلته مع الكثير، حتى إنّني فتحت له خطاً مع مجموعة من الجولان المحتل». في حكاية سلامة في الأسر والعزل المنفرد، تتظهّر صورة الإنسان النقي، المؤمن بقضيته، المحاور للمختلف معه أيديولوجياً، وقد تجد مواصفات حسن في ما كتبه ابراهيم حامد وهو الأسير القائد وزميل سلامة في الأسر (ص 199) لتدرك معنى أن يكون الإنسان إنساناً، فيقول عنه «إنه من أولئك الرجال الذين يملكون إحساساً عالياً بالحياة، مليئاً بالشغف، يتفاعل مع الأشياء صعوداً وهبوطاً مثل حركة الحياة، وعلى درجة عالية من الحياء. نشيطاً في القراءة، يكرّس الجزء الأهم من وقته للقراءة أو كتابة الرسائل المطولة التي تستحق بأن تدرج ضمن أدب التراسل في السجون…». أما ما ذكره سلامة في 224 صفحة، فهو خمسة آلاف صفعة مدوية على جباه القارئين والأمييّن، لأنهم تساووا بشرياً باعتناق الظلم.
«العزل بطعم الحب»، هو عنوان أحد فصول الكتاب، إذ يروي العرض الذي تقدمت به الأسيرة المحررة أحلام التميمي، ناقلة رغبة غفران الزامل بالارتباط به وإن طال زمن الأسر. وهذا ما حصل، في انتظار استكمال عقد الحرية. الحرية كمصطلح وتطبيق جديدين أضافتها الحركة الفلسطينية الأسيرة إلى قواميس اللغات، وعلوم السياسة والنفس والاجتماع، وإبداع في عملية المكاسرة بين السجين والسجّان!