حسن مصطفى.. بطولة أولى للشخصية الثانية

يلتحق حسن مصطفى بـ «المعهد العالي للفنون المسرحية»، فيجد دربه إلى التمثيل عبر المسرح، وشاشات التلفزة والسينما أيضاً. يمضي 60 عاماً من عمره (82 عاماً) متنقّلاً بين بلاتوهات واستديوهات وخشبات. يبرع في تقديم الكوميديا، كبراعته في ابتكار معانٍ متفرّقة لشخصيات تقف على حافة الدراما، وتنزلق في متاهاتها الإنسانية القاسية. يواجه كباراً في التمثيل، فيجعل من المواجهة لعبة وفناً: لعبة تجعل لمتعة المُشاهدة معنى آخر، وفناً يضع المهنة أمام امتحان جديد. لا يتوانى عن التنويع، مع أن للتنويع مخاطر وتحدّيات، أبرزها كامنٌ في قدرة الممثل على الابتكار الدائم. يُحاول تحقيق هذا الفعل. ينجح مراراً في أن تكون سمات أساسية في بناء الشخصيات عاملاً تجديدياً للابتكار. لكنه يبقى غالباً مسيّجاً بأنماط محدّدة يعرفها مشاهدوه ويحبّونها.

تساوٍ

يرحل حسن مصطفى. يقول النبأ إنه مُصاب بمرض، وإنه قابلٌ للتخلّص منه، وإن وعكة صحّية تُلمّ به مؤخّراً، فتوقف النبض في قلبه. يرحل حسن مصطفى قبل 5 أسابيع فقط على بلوغه الـ 82 من العمر (مواليد 26 حزيران 1933). 60 عاماً من التمثيل. عناوين أعماله كثيرة ومتشعّبة. أدواره مختلفة، يختصرها كثيرون في كتابتهم خبر رحيله بـ «ناظر مدرسة المشاغبين». المسرحية معروفة. تولد بنصّ لعلي سالم. يُخرجها جلال الشرقاوي. أول عرض لها في 24 تشرين الأول 1973، بعد أيام على اندلاع «حرب أكتوبر» (الجبهة المصرية: 6 تشرين الأول 1973 ـ 18 كانون الثاني 1974). تبلور المسرحية مسارات كثيرين، يغيب منهم أحمد زكي ويونس شلبي وسعيد صالح. بعد 6 أعوام، يلتقي حسن مصطفى «الراحلين» الثلاثة أنفسهم في «العيال كبرت» (1979) لسمير العصفوري، عن نص للثنائي سمير خفاجي وبهجت قمر.

عنوانان ضاحكان يصنعان «أمجاداً»، أو يُبلوران نجومية. يرحلون. لكن بعضهم الباقي على قيد الحياة يتألّق لاحقاً في زواريب المهنة وكواليس الصناعة، وتحت أضواء الشهرة. في العملين الأشهر لممثليهما مسرحياً، يكشف حسن مصطفى قدرة جميلة على التصدّي لعباقرة الكوميديا هؤلاء، إلى جانب عادل إمام في الأولى. يُبرهن عن حساسية رفيعة تتيح له مقارعة كبار يبدون وكأنهم يتسلّون في تمثيل لم يعد مجرّد موهبة، بل إتقان لأصول استعراض المواهب المتحوّلة إلى حِرفية. لن يكون حسن مصطفى أقلّ منهم أو أكثر. لحضوره في العملين المسرحيين مكانة خاصّة به. لحركة يديه، ونبرة صوته، ونظّارته الطبية مريدين أوفياء يعرفون إتقانه الجيّد قواعد الإبداع، وأوّلها تحفيز الصدق في اشتغال الصناعة.

دور آخر يتيح له الاختلاف قليلاً. ضابط في «جيش الدفاع الإسرائيلي» في الجزء الثاني من المسلسل التلفزيوني «رأفت الهجان» (3 أجزاء بدءاً من العام 1987) ليحيى العلمي، عن رواية لصالح مرسي. حساسية الصراع الحادّ بين مقوّمات المجتمع المصري وأبنائه من جهة أولى وإسرائيل من جهة ثانية تحول، غالباً، دون إتقان تمثيلي جيّد ومهمّ في تأدية شخصية إسرائيلية. قناعة حسن مصطفى بأن التمثيل مهنة وأصول وإبداع، تمنحه قدرة إيفاء الشخصية الإسرائيلية هذه (ضابط عسكري) حقّها التمثيلي. «تفنّنه» في التمثيل يعثر، في مشاركته في «يوميات نائب في الأرياف» (1968) لتوفيق صالح، المستلّة من رواية توفيق الحكيم بالعنوان نفسه (1937)، بعض خصوصية في التعبير، تجعله يغوص في قراءة المشهد الإنساني داخل الصراع بين السلطة والمجتمع.

اختبارات

العناوين الأخرى عديدة تنخرط في سياق المهنة. يُدرك حسن مصطفى آليات العمل. يخرج أحياناً عليها كي يتمرّن على الاختلاف، وإن لم يكن الاختلاف كبيراً أو متيناً أحياناً. تبدو رغبته في الدراما قوية، مع أن الكوميديا معه تصنع له عالماً مبنياً على مهارة لن تبلغ مرتبة التألّق الدائم. يتساوى وآخرين. يتفوّق على آخرين. يبقى بعيداً عن «البطولة الأولى» المشبعة ببهائها، لكنه يصنع للشخصية الثانية «بطولة أولى» من نوع آخر، لم ترتقِ إلى مرتبة الإبهار التي يصنعها حسن حسني قبل غرقه في تسطيح الأداء في أفلام تتناثر واحداً تلو آخر من دون أدنى تغيير. لكنها لم تنزلق أيضاً إلى استنزاف رخيص أو باهت، وإن يعيب البعض عليه تكراراً مملاً أحياناً. مع فطين عبد الوهاب مثلاً، يُقدّم حسن مصطفى، في «أضواء المدينة» (1972)، شيئاً من تلك الرغبات الدفينة واللاواعية ربما، المنبهرة بالأضواء، والساعية إلى النجومية، والعاملة على أن تتبوأ الواجهة. لكنه مع عادل إمام في فيلمي «مرجان أحمد مرجان» (2007) لعلي إدريس و«حسن ومرقص» (2008) لرامي إمام مثلاً، يخفق في امتلاك زمام أمور الشخصية الجانبية، بسبب كثرة تلك الشخصيات أولاً، وبسبب طغيان التسطيح الدراميّ للعملين معاً ثانياً.

هذه نماذج تعكس بعض تخبّط وارتباك في مسار التمثيل لحسن مصطفى. يريد جعل التنويع مدرسة في التمثيل. ينجح أحياناً، ويفشل أحياناً أخرى. ميزته أنه مثابر على عمل لا يُتقن غيره. ميزته أنه يحوّل تمريناته على ممارسة أداء جميل إلى اختبار أدوار يضع فيها شيئاً من ذاته، ويمنحها بعضاً من شخصيته الإنسانية. تخبّط وارتباك لم يحولا دون إظهار براعة وجماليات، وإن كانت البراعة والجماليات قليلةٌ.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى