حسين البرغوثي كتب رواية فلسطين بطابع إنساني

«الإنسان هو القضية كما قال كنفاني، والإنسان ليس في الكتب… هو في البارات والمناجم والشوارع». بهذه العبارة يلخّص حسين البرغوثي «مقولة» روايته القصيرة هذه، مختزلًا خطابها الذي ينضح إنسانيّة على غير صعيد، حيث الراوي/البطل، وربّما المؤلف أيضًا، يمارس البوح بعلاقات إنسانية، عميقة أو عابرة، وتحضر شخوص واقعة وأخرى متخيلة، لتقدّم عوالمها وحكاياتها ذات الطابع المأسوي، وإن بأسلوب ساخر حيناً، وبقدر من الهلوسات حينًا آخر. لكن بأدقّ تفاصيل الحياة اليومية.

في مثل هذه الأيام من العام 2002، رحل عن عالمنا حسين البرغوثي، الشاعر والناثر/ الروائي، صاحب العطاءات الأدبية والنقدية والفكرية المتنوعة. ومنذ ذلك الوقت، نحاول أن نستعيد صورة من صوره هذه، على نحو ما. وفي هذا العام، اختارت الدار الأهلية للنشر (عمّان) إعادة إصدار عدد من كتب البرغوثي، منها روايته «الضفة الثالثة لنهر الأردن» و «سقوط الجدار السابع: الصراع النفسي في الأدب»، وديوان «مرايا سائلة». هنا إضاءات على «ضفّة ثالثة..» (كانت طبعتها الأولى صدرت في العام 1984).

قبل الولوج إلى عوالم الرواية، لا بدّ من إضاءة سريعة على عوالم البرغوثي نفسه، البرغوثي الذي رحل باكرًا، والدكتور الأكاديميّ المتمرّد والمختلف مظهرًا وجوهرًا، حتّى صار له «مريدون» من تلاميذه وطلبته، ومن جيل من الكتّاب الفلسطينيّين. ومن يقرأ شعره، يجد نفسه أمام شاعر تجريبيّ بلا حدود. شاعر مسكون بهاجس الاختلاف والتغريب. لكنهما تجريب وتغريب ينطلقان من عباءة الأسلاف، ومن ثقافة عالميّة وإنسانية رفيعة، محاولًا تجاوزها ليضيف إليها «حداثته» هو، المميِّزة والمميَّزة. وهو، إلى ذلك، قد أغنى المكتبة الفلسطينية والعربية بعدد من الكتب، نذكر منها الدراستين النقديتين «أزمة الشعر المحليّ»، و «سقوط الجدار السابع»، وله كتابان في الـ (سيرة) لم يشهد الأدب العربي مثيلًا لهما، في اعتقادي، وهما «الضوء الأزرق» و «سأكون بين اللوز». فما الذي تمثّله رواية «ضفّة ثالثة..؟».

هذه الرواية، في مائة صفحة وصفحة، وفي جملة واحدة متواصلة ومتصلة، منذ الكلمة الأولى حتى الأخيرة، وبلا توقف سوى عبر نقاط وفواصل، فهي مبنيّة بأسلوب توالُد الحكايات والقصص والحوادث والشخصيات، من رحم الشخصية الأولى، شخصية الراوي، الذي قد يكون هو المؤلف نفسه، ومن رحم حدث «الخروج» وما ينجم عنه من تشرّد وتمزّق، ولا تنتهي إلا بعودته إلى بلده المحتلّ، راضيًا بالسجن بديلًا لا بدّ منه، بل أرحمَ وأقلّ ألمًا من الألم الذي تسببه «الثورة المضيّعة أو المزيفة»، مردّدًا «ليتني كنت طليقاً في سجون الناصرة»، كما تمنى الشاعر محمود درويش مرة، في المنفى. بينما يبقى الآخرون مفضّلين عذابات المنفى على الواقع العربي المثقل بكل أشكال القهر والظلم والاستبداد، التي هي أشد قسوة من ذل النفي، ومن إرهاب الاحتلال وسجونه.

هنا، نحن حيال «مناضل» تقاذفته المنافي، وهو «الآن» يكتب لحبيبته «دانا» عن ترحاله وتشرّده وحياته بين الهامشيّين واللاجئين. فلسطيني يغادر مدينته/ قريته/ أو مخيّمه إلى اللامكان، إلى المجهول، فنجده في بيروت أو دمشق أو بغداد أو بودابست، هو ومجموعة من المشرّدين أمثاله، بعضهم ممّن انتمى إلى المقاومة الفلسطينية ذات يوم، ومن الحالمين/ الواهمين بالتغيير والتحرير، لكنهم بدلًا من ذلك ضاعوا في المنافي، في بلاد الغربة، ممزقين ويائسين ومفرغين من أنفسهم المحطمة.

الراوي/ البطل يخرج من مدينة ذات مواصفات «قهرية»، مدينة ذات مصابيح صفراء وشوارع خالية إلا من صناديق القمامة والقطط السائبة، وأزقة مظلمة حيث «تخاف الفتاة من الاغتصاب». يخرج باحثًا عن حصان «الحرية». يدخل بيروت، وفي أثناء الحرب الأخيرة يقرّر الانتحار «لأن الحياة لا تساوي ما نتحمّله حتّى نعيشها»، ويسير منتظرًا أن تأتيه طلقة قنّاص من أيّ مكان، متمنيًا أن يرى هذا القنّاص «رؤية عينيه بالذات»، ثم فجأة يظهر من يهمس له بحذر «لهجتك فلسطينية! غيِّرها». ثمّ يخرج إلى مدينة أخرى، فنراه في إحدى ضواحي المسيسيبي، حيث أجواء الاحتفالات والرقص وطيور البحر، وهو على هضبة تطلّ على بحيرة زرقاء، ولكن فجأة نجده يدخل نيويورك ويستريح في مكان يقدم الخمرة في «الفورث أفينو».

وتضجّ الرواية بعشرات الشخصيّات، الفلسطينية والعربية والأجنبية، ذكورًا وإناثًا، شخصيّات غالبيّتها عابرة، لكنّها تعبّر عن «واقع» يريد المؤلف تكريس «روايته» عنه، هو واقع المشرّدين في بودابست/ هنغاريا التي يوجّه لها الشكر في مطلع الرواية «شكرًا لمن ساهموا في هذه الرواية بحياتهم ومأساة وجودهم قبل كل شيء. للشعب الهنغاري الطيّب الذي احتمل المئات من هؤلاء الضائعين..»، وفي دول غير هنغاريا أيضًا… فالشخصية الرئيسة «عابرة للحدود»، نراها كلّ لحظة في «مكان» أو بلد، كأنّما لتعبّر عن المنافي والشتات في حياة الفلسطينيّ.

هي إذاً التراجيديا الفلسطينية- العربية في أبعادها الإنسانية الموجعة. يروي الراوي على لسان شخصية من اليمن، قادته «الثورة والاشتراكية وصراع الشمال والجنوب» إلى بوادبست، ليكون مشردًا حينًا، وليتدبر أمره بدراسة التاريخ، رغم أنفه، في إحدى الجامعات، حينًا آخر، وليخلص إلى أن «الشرط الأول للتقدم هو أن نتقزز من أنفسنا حتى نهرب منها. مسألة بسيطة. العالم الثالث يعبد أوروبا. وأوروبا تعبد أميركا. وأميركا لا تعبد شيئًا ما عدا حربًا عالمية ثالثة. فلنحوّل عقدة النقص إلى تقزز، والتقزز إلى ثورة، والثورة إلى احترام ذات».

تنتهي الرواية بحكاية «البطل» مع الزنازين الإسرائيلية، حيث «قضيت ثمانين يومًا في زنازين مختلفة، رأيت خيرة عقول هذا الجيل تصاب بالصرع وانفصام الشخصية والجنون..»، زنازين وسجون «نفحة ونابلس وصرفند وغيرها. الوطنيون يسمّونها المدارس، والأبرياء يسمونها المسالخ، والجواسيس يسمونها الإدارة المدنية. ولكن، لن يفهمها أحد قبل أن يدخلها ولن ينساها أحد ممن يخرج منها». وحين يتم الإفراج عنه، يقف منتظرًا «لا شيء»، وربما حائرًا ما الذي سيفعله، فينهره العسكريّ «انصرف»، فيخرج حائرًا أيضًا، ما الذي يفعله بحريّته؟ ثم يجد نفسه يغرق في الشارع «مثل بقيّة الناس». لقد عاد إلى الحياة «الطبيعية» إذاً.

أبرز ما يميز هذه الرواية، فضلًا عن عوالمها الغريبة و»الغرائبية»، وهي عوالم لا تجدها في الرواية «الفلسطينية»، هو لغتها الرشيقة وإيقاعها السريع. نحن هنا حيال لغة مرنة مطاوعة وتتفتح مع المشهد بقدر كبير من الليونة. ومن جهة الإيقاع، وخصوصًا إيقاع الزمن، فاللافت هو الإحساس بخفّة هذا الزمن وسرعته وحركيّته. زمن لا نكاد نشعر به وهو يمرّ مثقلًا بالحدث، ممتلئًا بالمكان والشخوص، مكتنزًا بالمعنى. وهذه هي بعض سمات السرد كما خبرناها في كتابات البرغوثي عمومًا، وفي كتاب «سيرته» الروائية الأبرز «الضَوء الأزرق»، وأرى أنها أبرز سمات الكتابة الحديثة، بل الحداثيّة التي يقدّمها البرغوثي. إنّها رواية إنسانيّة أساسًا، لكنّها فلسطينية أيضًا، من دون شعارات أو من دون الكثير من التفاصيل الفلسطينية.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى