حطّاب لغوي أحرقَ الغابة ثم صمتَ باكراً (خليل صويلح)


خليل صويلح


هل تكفي ثلاث مجموعات شعرية لإحداث مثل هذا الصخب حول خصوصية تجربة محمد الماغوط؟
الرجل صمت شعرياً مبّكراً، على رغم كل المديح الذي واكب حضوره المتفرد والاستثنائي، ليضع قصيدته على رفّ خاص في المكتبة العربية، إذ اتفق أصدقاء قصيدة النثر ومعاديها على شاعرية الماغوط دون غيره من الشعراء، وظل بمنأى عن الحروب الطاحنة حول ما هو شعر، وما ليس شعراً، ولم يدخل في السجالات النقدية والنظرية حول شرعية ما يكتب. كانت قصيدته ولا تزال، خارج سجلّ النفوس الشعري، ولم تُرجم بحجر أو تُتهم بخطيئة، فيما خاض الآخرون معارك شرسة لإثبات هوية قصيدة النثر وشرعيتها. حتى انه لم يكلّف خاطره بتسمية ما كان يكتبه: هل هو شعر أم نثر، أم صراخ في برية؟
وحين كثرت الكتابات النقدية حول شعره، تشبّث الماغوط بعفويته وفطرته، وراح يؤكد صراحة أنه لم يكمل تعليمه، وتالياً لم يطّلع على خزائن الحداثة كي يغرف منها نصوصه أو يتأثر بأعلامها.
ولكن ماذا لو أن محمد الماغوط لم يغادر إلى بيروت حينها، هل كان له أن يحقق مثل هذا الحضور الصاخب؟
لا شك بأن بيروت أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، تلك المدينة الكوزموبوليتية، هي التي منحت نص الماغوط شرعيته وبريقه، خصوصاً بوجود أباطرة الحداثة في مشروع مجلة (شعر).
يعترف الماغوط بأن معلمه الأول في الشعر هو سليمان عواد ابن مدينته السلمية، فيما لم يتجاوز اسم المعلم حدود البلاد، ثم أليس غريباً أن يصمت الماغوط عن كتابة الشعر بمجرد أن غادر بيروت واستقر في دمشق مجدداً؟ كأن المدن تلعب دوراً أساسياً في إنضاج تجربة إبداعية أو موتها!

قصيدة الظل

كانت آخر مجموعة شعرية كتبها هي (الفرح ليس مهنتي) (1970)، بعدها تحوّل إلى كتابة المسرح والزوايا الصحافية التي كانت طوق النجاة من غرق الصمت الشعري. لنتذكر مقالاته آنذاك في مجلة المستقبل الباريسية تحت عنوان (أليس في بلاد العجائب) مروراً بـ(كاسك ياوطن) في الكفاح العربي، إلى (تحت القسم) في مجلة (الوسط). هذه المقالات على رغم غضبها وسخطها وطرافتها ومفارقاتها، كانت كما أزعم، قصيدة الظل التي لم يتمكن الماغوط من استعادة وهجها. هكذا بقي على تخوم الشعر، إذ من النادر ألا يلتقط القارئ جملة شعرية مباغتة بين السطور، وهو ما استمر على تأكيده في تجاربه النثرية الأخيرة التي أطلق عليها اسم (نصوص) حين طبعها في كتب (شرق عدن غرب الله)، (سياف الزهور)، (البدوي الأحمر). أما شراكته المسرحية مع دريد لحام، فقد قادته إلى ساحة كتابية جديدة تختلف جذرياً عما كتبه من نصوص مسرحية سابقاً، مثل: (المهرّج)، و(العصفور الأحدب)، وحتى (خارج السرب). النصوص الجديدة مثل (غربة)، (ضيعة تشرين)، (كاسك يا وطن)، لا تمثّل بأية حال ما كان حققه الماغوط في سابق عهده لجهة البناء الشعري والبلاغي والهجائي. لنقل إن الماغوط اعتاد الشهرة، ووجد في دريد لحام – الممثل الكوميدي – أفضل شريك لكي يحافظ على حضوره العلني بالمعنى الجماهيري عن طريق المسرح الشعبي بخلطة من التوابل السياسية والحقن المهدّئة.
من يقرأ اليوم (العصفور الأحدب) أو (المهرّج) سيباغت بذلك المزاج الحاد الذي وسم مسرحياته، وسيفتقد في المقابل في مسرحياته المشتركة مع دريد لحام ذلك البريق، أو تلك المقولات الغاضبة التي كانت شخوصه تنطق بها بين تلك الجدران العفنة، وذلك بذهابه نحو المفارقة والنكتة السياسية وحسب.
لنعد إلى الخريطة الشعرية التي أنجبت تجربة الماغوط، ورسمت حدود مملكته المستقلة، فهو نصبَ راياته، وأعلن نشيده الوطني الخاص دون أن يخوض معركة واحدة. قاد انقلاباً أبيض، من دون إيقاع أو أوزان، كما أنه لم يتكئ على الأسطورة كما فعل السياب، ولم يوغل بالأفكار مثل أدونيس، ولم يقرأ الشعر الفرنسي كي يلتحق بتجارب شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج وتوفيق صايغ. كما أنه أدار ظهره للتراث، ليراهن على أتون التجربة الفردية وحسب. الفرد الأعزل والهامشي والصعلوك الخارج من جحيم القاع. هكذا حصد اعتراف الجميع، وراح ينسج بنولٍ خشن أوجاعه وآلامه ومكابداته بأقصى حالات التكثيف الشعري، لتحتل الصورة المدهشة واجهة القصيدة، فالماغوط مبتكر صورة في الدرجة الأولى، صورة تنهض على المفارقة وتمتحن مفردات الحرية ببسالة. هكذا يتحوّل العالم إلى سجن وقفص وجدار كتيم للصراخ والشكوى، وعلى رغم رومانسية الماغوط إلا أنه أطاحها بخشونة ليتمرّد على كل ما هو مستقر، ويرفع راية الحزن الأبدي، حزن البدوي الذي غادر الصحراء المفتوحة، ووجد نفسه في قفص.
قصيدة الماغوط في مرآة أخرى، هي حداء صحراوي مثقل بالألم، وغنائية شجية تمتح من مفردات الحياة اليومية إيقاعها ومجازها، وإذا بها تتجاوز ما هو مألوف نحو معجم مبتكر بأبجدية جديدة تذهب بالمعنى إلى تخوم أخرى، وحساسية تقترب من جماليات نثر الواقع، حساسية تجد في التشبيه بنية أساسية للمفارقة. هكذا تصبح (كاف التشبيه) جوهر كيمياء الشعرية لديه على خلفية من غضب أبدي، لا تنظمه أيديولوجيا سوى فردانيته وضجره كشاعر أرصفة ومقاهٍ، شاعر متشرّد محبط لا يراهن على الأحلام في ظل عسف جماعي طال كل ما يحيط به.. (شعر واقعي لا يحلّيه الأمل، ولا يبهره اليأس) حسبما تقول عنه خالدة سعيد.
في المآل الأخير، فإن الماغوط صنع عالمه من اللغة، وبنى سُلّماً من الغبار، ورمى سفينته في بحرٍ من الحبر، ثم راح يصارع أمواج المجاز، فالعالم الذي أسس له، ونادى به، كان من المستحيل أن يتحقق إلا على أرض اللغة وحدها. هكذا أنشأ مدناً هامشية بديلة، وأدار ظهره للمركز، وانتعل الأرصفة ولهاث القاع، وأعلن هزيمة الأمة: (اهربي أيتها الغيوم، فأرصفة الوطن، لم تعد جديرة حتى بالوحل)، ويكمل انكساره الصريح حين يهتف: (حسناً أيها العصر لقد هزمتني، ولكني لا أجد في كل هذا الشرق مكاناً مرتفعاً أنصب عليه راية استسلامي).
لكن هذه العلاقة الملتبسة مع العالم ستبقى محض مجاز شعري تبنيه اللغة وتحطّمه اللغة أيضاً. عالم افتراضي لرجل بدائي وجد نفسه في ورطة الحداثة وتعقيدات العصر، فلم يتمكن من العودة إلى البراءة الأولى أو المجازفة والانخراط في قيم مدينية لا تمثل أية قداسة بالنسبة إليه، وهو ما جعل نصه على وجه العموم، خارج التصنيف والتجنيس، وما اللجوء إلى اللغة الطليقة إلا استغاثة متأخرة لاستعادة البراري المفقودة والمنتهكة، وكانت البدائل الإيقاعية للتعبير عن مأساته الشخصية هي شحن اللغة وتكثيف الصورة، وقبل ذلك كله الالتفات إلى الإيقاع الداخلي، فالماغوط، في المآل الأخير، شاعر غنائي بصرف النظر عن شروط الغنائية التقليدية، وتالياً، فإن انخراطه في ترميم عطب قصيدة النثر جاء تلقائياً، وليس عن دراية نقدية، فهو يعلم أن للقصيدة شروطها، وفي مقدمة هذه الشروط الإيقاع.
ولعل ما يدهش حقاً لدى فحص واختبار كيمياء شعر الماغوط، أنه ليس تصاعدياً، بمعنى أن شعره بقي في مستوى واحد، فهو ظل على الدوام بنبرة عالية ولغة مدهشة منذ قصائده الأولى إلى قصائده الأخيرة. قصيدة بلا مطبات. جامحة وغاضبة ومتمردة، ليس من هضاب أو أودية. براكين وحمم وحسب، سواء لجهة المعنى، أم لجهة الجسارة البلاغية، وحين أحس أن سفينته وصلت إلى الضفة الأخرى من دون خسائر أو أشرعة ممزقة، تمدد على الشاطئ، وذهب في غيبوبة طويلة، مطمئناً إلى أنه وصل إلى مبتغاه.
هكذا استبدل صمته الشعري المبكر بكتابة مقالات غاضبة بقيت في الذاكرة إلى اليوم رغم مقاصدها الآنية، فهو واحد من قلائل يمسكون بتلابيب القارئ إلى آخر نقطة في السطر، ليضعه في الزاوية الحرجة كي يتفرج على ذاته من دون أقنعة، ذاته المسلوبة والمستلَبة لأنظمة قمعية أفقدته القدرة على مواجهة مآسيه اليومية والتاريخية، وإذا به أقرب ما يكون إلى كائن هجين في قفص من زجاج.

الحرية

الحرية إذاً، هي المفتاح السحري الذي طالما بحث عنه الماغوط في عتمة الليل العربي لفتح كوة بسيطة نحو الضوء.
لقد نضب شعر الماغوط ولم يكتف من التطلع إلى الحرية من دون أن يروي ظمأه إليها، ثم أكمل مسيرته في كتاباته الأخرى، وتنضاف إلى الحرية عناصر أخرى أساسية في تجربته، في مقدمتها الخوف والفزع في ثنائية العصفور والقفص. من هنا جاء نصه حاراً ومحرقاً. يقول في تفسير تمرده وغضبه الدائمين: (عندي هموم تفور من قمة رأسي كالبركان. كنت غريقاً ولم يكن لدي وقت لاختيار أو انتقاء صنف وطول ومنبت الخشبة التي ستنقذني. كنت أكتب فقط لأنجو).
هكذا يضع الماغوط العالم في جهتين متقابلتين في حربٍ خاسرة: (نحن)، و(هُم)، في ثنائية تكشف حجم المفارقة وطول المسافة بين الواقع المظلم والحلم المستحيل. كل ذلك من دون أن تستند نصوص هذا الشاعر الاستثنائي إلى شعارات كبيرة، بل كان مهموماً بما يحتاجه الكائن العادي في حياته اليومية، وتمكّن من انتزاع شرعية للقضايا الصغيرة الخاسرة، حيث (يغدو الرغيف بصلابة الخنجر).
ولكن لماذا صمد الماغوط إلى اليوم؟
لعل السبب الجوهري يكمن أولاً في موهبته الفذة في بناء علاقات لغوية وشعرية من طراز خاص، بالإضافة إلى تلك البساطة المذهلة في مفرداته، البساطة التي ألغت المسافة والمهابة بين الشاعر والمتلقي. في شعر الماغوط لن تجد مفردة واحدة ليست محسوسة أو غريبة مما يبحث عنه الآخرون في القواميس المحنّطة، وقد استبدل الجزالة التقليدية في الشعر العربي بالجملة أو الصورة المتوترة والساخنة كرغيف اُخرج للتو من التنور. هكذا دخل غابة الشعر بكل وحشية، وبفأسٍ حادة أخذ يحطّم الأشجار العالية، ليعيد إلى القصيدة حسيتها، وللأشياء ملمسها الخشن، وللحنجرة صراخها التاريخي ضد الظلم والاستبداد، فهذا الحطّاب اللغوي، لم يكتف ببضعة أغصان يابسة لإشعال موقده، بل أراد إحراق الغابة كلها غير آبه باحتجاجات فقهاء البلاغة وأصحاب المساطر الدقيقة في توصيف الشعر.
وفي الوقت الذي كانت فيه القصيدة الحداثية ترفل بالألفاظ الغريبة والأساطير، كان الماغوط يختبر أسطرة اليومي عبر أنا الفرد المهزوم والمحطّم والمهمش، فإذا به يصير في المتن، يصرخ بأعلى صوته مطالباً بالأوكسجين الذي افتقده عبر كل تاريخه الطويل من الحرمان، وبأقصى حالات القسوة. شاعر دخل إلى ديوان العرب بأصابع ملوّثة بالحبر، ومعطف مثقل بالأحزان، من دون بزة رسمية وربطة عنق، ما جعل الرسميين يتململون في مقاعدهم وهو يحطّم أصابع البيانو، ويستبدلها بعويل القصب ورائحة البراري.
نعم، لقد كانت قصيدة محمد الماغوط غيمة ماطرة في سماء الشعر العربي، وقد صارت شجرة مثقلة بالثمار ذات النكهة الفريدة واللاذعة، قبل أن يهزّها الماغوط نفسه في خريف تجربته ويعريها من ألقها القديم، ويصرف فاتورة الأرباح بنصوص لم ترقَ إلى ما كان أنجزه من قبل، بقصد التعويض عن خسائره الأخيرة!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى