حكايات الخوف من الموت !

كان ذلك قبل أكثر من أربعين عاما، وكانت السيارة التي نحن فيها تنطلق فينا مسرعة باتجاه مدينة طرطوس، عندما خرجت سيارة شاحنة كبيرة من المنعطف دون أن تهتم بالقادمين في الشارع الذي أرادت الانخراط في تيارات السيارات المتوجهة فيه نحو الشمال..

لم أكن أنا الذي أقود السيارة، كان يقودها شاب شجاع اسمه رضا، أوقف السيارة دوت اصطدام بالسيارة الشاحنة، لكنه انزلق بسيارتنا نصف متر تحتها بين العجلات الأمامية والخلفية، وهذا يعني أن الشاحنة ستمر فوقنا، إلا إذا تراجعنا وكان ثمة فرصة للتراجع تحتاج إلى ثلاث ثواني، فتراجع رضا ببراعة ونجونا !

في منطقة الفاكهاني في مدينة بيروت كان للخوف من الموت علاقة بالسيارة المفخخة، وإذا كنت قريبا منها، ونجوت، فهذا يعني أنك شاهدت الموت بأم عينك، وأنا كنت قريبا منها، ولايزال صوتها يجرح كياني، ولازلت أحاول التعرف على تفاصيل الموت الذي رأيته ..

وفي الجنوب اللبناني، كنا في تجمع صحفي مع مقاتلين في جوار بيت يحجبنا عن قلعة الشقيف التي كانت محتلة من إسرائيل، ويبدو أن الجنود الاسرائيليين أحسوا بحركتنا، فأطلقوا قذيفة مدفعية انفجرت على مقربة منا، ترامينا في كل الاتجاهات ثم جمعنا مخبأ تحت الأرض نترقب فيه اللحظات القادمة بفزع !

في الحرب على سورية ، صار الموت ينازلنا كل يوم ، وآخر المنازلات هي في حلب !

نعم ، فبين لحظة وأخرى يداهم الموت السوريين بشكل جديد، فيغلبهم وأحيانا يغلبونه، ومع تطور الحرب صار الموت يخاف من جبروتهم . بدأت أشكاله تتراءى لنا في أواسط العام 2011 ، بدءا من اندلاع اشتباكات مجهولة الأطراف بالأسلحة الرشاشة ، ونحن في قلبها، وصولا إلى هجمات بالسيارات المفخخة على المنشآت التي نعمل فيها ، مرورا بقذائف جهنم وقذائف الهاون ..

كان صوت الانفجار يدخل في عظامنا، قبل أن نشعر باهتزاز البناء كأن زلزالا ضربه، يتحطم الزجاج ، تتخلع الأبواب والنوافذ، وتتمزق السقوف المستعارة، وترتمي في وجوهنا. وعندما يتعالى الصراخ يأتي انفجار جديد فيكتمه لأنك لايمكن أن تصرخ مرتين في انفجارين متتالين كل منهما يوازي انفجار سيارة محملة بالتي إن تي !

قذائف الهاون .. تجعلك في مهب الريح !

قذيفة واحدة تكفي لتقتل .. لكن عشرة قذائف تعجز أحيانا عن جرح قطة صغيرة، والقذائف التي تساقطت فوقنا قبل نحو عام جعلتنا ننظر إلى بعضنا البعض بهلع واضح، فلماذا تزداد الرمايات على مكان واحد نحن فيه ؟!

أتذكر الآن العبوة التي وضعت في سقف مستعار في الغرفة المجاورة للمكان الذي أعمل فيه.. تلك العبوة جعلتني أركض في عكس الاتجاه الحقيقي للنجاة . كان الممر مغلقا، وكان علي أن أعود لأدخل غيمة الغبار والدخان والدم التي هاجمتني من جهة انفجارها ، فكابرت وشرعت بالمساعدة في إسعاف المصابين..
لن تكون بطلا عندما تواجه الموت، فالموت شيء لايمكن وصفه، ولكن يمكن التعبير عنه بأنه النهاية !

في ليلة 21 آب 2015 ، حدث شيء آخر ، فقد قصفت الطائرات الاسرائيلية عددا من المواقع قبل الفجر، فاشتعلت النيران من حولنا وفي جبل قاسيون كأنها جهنم . كانت الأرض تهتز، والنيران تندلع في أكثر من مكان ، وكانت ابنتي تقول لي :

ــ بابا أنا لا أريد أن أموت . خلّينا نسافر!

ولم تنتبه ابنتي أن ثمة دموع راحت تتساقط من عيني، فقد شغلتها عني الانفجارات المتتالية فاحتضنت جسدي ..

ترى كيف يشعر أبناء حلب في حكايات الخوف من الموت ؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى