حكايات القاهرة| الثورة المعلنة (وائل عبد الفتاح)
وائل عبد الفتاح
أشار لهم بالتحية.
رغم أنه سمع باذنه الهتاف : «إرحل»، الا أن محمد مرسي بدا تائها. لم يتحكم في لغة جسده. رفع يده إلى أعلى وتوجه الى سيارة خطأ. قاده الحرس كأنه يتعلم الخطوات الاولى أو يسير على ثلج محترق.
على المستوى النفسي، يبدو مرسي قد عاد الى ما قبل دخوله القصر ومعرفته المواكب. عاد الى الارتباك الاول. رغم انه اعتاد الخروج يوم الجمعة بقميص خفيف، إلا أنه لم يدرك التغيير الذي حدث وجعل مدينة تعلن عن ثورتها على الرئيس (وجماعته) و تحدد موعدا تجهّز فيه الثورة حشودها.
لم يكن صدفة مثل 25 يناير، او محل شك، لكنه يقين مفرط بأنه في 30 حزيران سيرحل مرسي وجماعته، في اعلان عن قوة مجتمع يعيد بناء روابطه وشبكاته المقطوعة طوال سنوات ابتلعته خلالها السلطة.
لم يدرك مرسي أنه يحكم في هذه اللحظة الفريدة… لحظة خروج مجتمع من القمقم او تحطيم اسوار برلين الشخصية اوالخروج من البالونات الفردية.
لم يعد الخروج على الحاكم عملا سريا. وتنقلب الادوار بالبحث عن مكان لأجهزة الامن: هل تختفي في مقرّاتها؟ ثكناتها؟ ام تبحث لها عن وظيفة؟
عاشت مصر بعد الثورة التحول من عصر كانت فيه قوات الامن تمتص الغاضبين والمحتجين في اطواق أمنية ضخمة، الى عصر كلما نزل الشعب الشارع اختفى كل من يرتدي بدلة «ميري» (نسبة الى الاميري… او الرسمي بلغة ايام الملكية).
الآن، الثورة معلنة. والثوار ضيوف على الفضائيات يشرحون خططهم ويتجادلون في ما سيحدث بعد رحيل الرئيس.
يسمع مرسي ويشاهد التحضير لازاحته، ليس في تقارير امنية او ملفات «سري وخطير»، ولكن على الشاشات وفي الشوارع حيث انشطرت حملة «تمرد» لتخترق مدينة تخرج من صمتها الكوني بانجارات و زلازل اقوى من احتمال سكانها.
تصور مرسي انه بالصندوق احتل المدينة. انتصر في غزوته، وارتدى (قبل القميص الصيفي) جلابيـــة لا اصل لها، مصنوعة في الصــين وتنـــتشر في الخليج، لكنها بفعل الاستهلاك وحده اصبحت رمزا لمن «يحافظ على اصوله» كما بررت اجهزة البروباغاندا ظهور مرسي بالجلابية الصيني في ايامه الاولى.
التحولات في الازياء لم تتغير معها مشاعر «الغزاة».
غزاة قادمون من عالم افتراضي، بمشاعر ريفية لا تري العالم في تعدده، وتتصور انه محكوم بهرمية خالدة، يستبدلونها بسلطتهم المعنوية السابقة، ويكاد يكون شعارهم: «ما دمنا في الحكم… فهذا هو الحل».
نرجسية تريد الديموقراطية وسيلة لوصول الحكم الى مستحقيه، وهم بالطبع مستحقوه، وأنه بمجرد وجود كل هؤلاء الرجال الطيبين في موقع السلطة، فإن الخير تحقق.
ليست ديموقراطية. انها «بيعة». وليست عقدا سياسيا مشروطا وفق قواعد تجعل الفرد وسعادته هي الهدف.
الفارق هنا ان هذه النظرة (السلطوية) تجعل الحاكم الفرد هو المعيار والإله الذي تسير بارادته الدولة. يسمون هذه الارادة «هيبة» كنوع من النفاق الرخيص، لكن معناها ومضمونها ان الرئيس هو المتحكم في هذه الماكينة، وسيّدها الوحيد، وهذا ما يجعلهم يندهشون من الاعترض على رغبات مرسي وفرقته السلطوية، فهذه هي الطريقة الوحيدة لممارسة السلطة، والوقوف ضدها ليس الا مؤامرة (بالاصابع او من غيرها).
لايعرفون ان هناك سلطة من دون تسلط، وحكماً من دون ديكتاتورية، ومسؤولية من دون استبداد. هذا ما في عقولهم وارواحهم، فهم ليسوا حكاما، بل «رسل» يستمدون شرعيتهم من السماء (لهذا يقول إن حكم مرسي «رباني»)، ومعهم السحر الكبير («الاسلام هو الحل»)، وأنه بمجرد وجودهم (هم الطيبون) ستنصلح الاحوال.
هذه لعنة السلطوية، وهذه النظرة الجامدة القاصرة لمعنى السلطة ومفاهيم المسؤولية. مشكلتهم ليست في فسادهم ولكن في تصوّر ان «نظافتهم» وحدها تكفي للحكم او تسمح لهم بفعل ما كان يفعله المستبدون ما داموا هم الفاعلون.
وهذه نظرة نرجسية تحتقر شعبا كاملاً، وتراه مجرد اطفال عبيد صغار، كما تحتقر البشرية بافكارها وكفاحها لتخليص المجتمع من العبودية السياسية او القهر باسم كل القيم الكبيرة من الدين الى القومية المتعالية على بقية القوميات.
التسلط باسم الدين او القومية او باسم «نظافة السيرة» هو في النهاية تسلط واستبداد واعادة هندسة للفراغ السياسي لتكون السلطة مركزها المسيطر والمهيمن.
وحجتهم ان السلطة الآن نظيفة اليد.
الاخلاق الشخصية هنا بديلة للسياسة، مع ان طبيعة الشخص ترتبك امام السياسة التي هي عملية لها سيرورة، وليست حدثاً تستعرض فيه الاخلاق نصاعتها. لكنها قواعد توضع فوق الجميع، ويتساوى امامها الجميع، ولا ترتبط بحسن اخلاق احد او بملائكية اخر… وهكذا.
غزاة وملائكة ادخلهم المصريون في «التجربة» ليرى ماذا سيفعل «الضحايا الطيبون» و«بتوع ربنا» عندما يحكمون. دفعهم المجتمع الى المسرح ليضع نهاية لابتزازهم باسم الله.
الاخوان فهموا اللعبة بمنطقهم. تصوروا ان هذا «زمنهم». لم يفهموا ان خروجهم من الكهوف التنظيمية لن يجعل لهم الحق في وراثة الاستبداد القديم، ولا فهموا طبيعة المصريين الذين يضعون منذ الاف السنين كل شيء في مسارات متوازية لا تتقاطع بل تتجاور في مسارات متوازية (الدين والحداثة / التوحيد والوثنية / النشاط والكسل) بمنطق اخضاع كل شيء لحياة منتظمة بايقاع (بين الفوضى والنظام).
هنا لا يختفي شيء. يمكن ان تجد عادات من ايام الفراعنة اتخذت صبغة اسلامية، ووسيلة مواصلات مملوكية تزاحم «الهامر» في نفس الطريق، وعبادة الحاكم مع الثورة عليه، وتقديس الكاهن / الشيخ وتحطيمه. هكذا تتجاور البهجة والمأساة كل يوم في تواز رهيب.
الاخوان تقاطعوا مع هندسة الحياة بهذا التعقيد وهو ما جعل ايامهم قصيرة في المدينة.
وجعلت مندوبهم يتوه في الطريق.
وجعلت الثورة معلنة… على الهواء مباشرة.
صحيفة السفير اللبنانية