حكايات القاهرة (وائل عبد الفتاح)
وائل عبد الفتاح
1 «عملية المجنونة»
أو خطة عودة الدولة الأمنية يمكنك أن تلعب ببساطة في تحريك الوعي الخائف/المذعور، وتستحضر «المؤامرة « لتضمن شعبية حتى لوحشية «الدولة الامنية».
هكذا عزفت الماكينات الإعلامية ألحاناً حربية مصاحبة لعملية تثبيت الدولة الأمنية في المشهد، بداية من فرض قانون التظاهر بقوة ضغط رهيبة، وحتى العسف بالمشاركين في وقفة رفض لإقرار «محاكمة المدنيين أمام محاكمة عسكرية». العسف تم قبل تفعيل القانون وبطريقة مضادة له في الوقت ذاته، حيث لا تمنح مواد القانون حق فض التظاهرة، وانما فقط «تحرير مخالفة».
القانون هنا ذريعة للقهر ولم يصدر ليمنع أو يوقف أو ينظم التظاهر، فهناك قانون صدر سنة 1919 وعدل سنة 1924، ولكن الغرض الأساسي هي المواد التي تحمي الشرطة وتمنحها تصاريح بارتكاب جرائم من إهدار الكرامة وحتى إهدار الحياة، وهو ما لن تتنازل عنه الشرطة… هديتها التي سقطت لها من الرئاسة عبر مستشار الرئيس الدكتور مصطفى حجازي أو من النظام الانتقالي كله الذي بدأ في خريطة الطريق بأولويات من بينها العدالة الانتقالية مثلا.
ماذا حدث في هذه الأولوية؟ ألم تكن من ضمن حزمة الخريطة؟ ولماذا يبدو الطريق اليوم مقطوعاً من جحافل الدولة الأمنية التي تريد إعلان سيطرتها على كل شيء، وتوريط كل المؤسسات من الرئاسة الى القضاء مرورا بالإعلام والحكومة في التصدي لمؤامرة تعطيل خريطة الطريق، ومن يهرب من المواجهة فهو جزء من المؤامرة، ولو كان وزيرا أو رئيس حكومة، وبعضهم أسر لأصدقائهم المقربين: «لا أقدر اليوم على الانسحاب… فالخروج من المنصب معناه تقديم طلب التحاق بالسجن».
الى هذا الحد «لا صوت يعلو على صوت الدولة الأمنية». وحدها تقود وتكسر وتعلن بكل ما أوتيت من جنون عن عودتها. المسار هنا تغير من التحالف ضد الإخوان إلى التحالف من أجل إعادة تركيب الدولة وفق سيطرة أجهزة الامن/ملهمة خطابها/المزركش بالشوفينية المصرية ومستعدية مفارمها لتفكيك كتلة الثوار أو القوى الشابة باختراقها رأسياً، والقضاء على الجزء غير المدجن أو عزله وإضعاف تأثيره، ليبقى الحكم تفاحة تسقط من أعلى بقانون الجاذبية العسكرية.
خطة فشلت من قبل حين أراد المجلس العسكري اصطياد القوى الثورية في فخ محمد محمود الاولى (2011) حين توهم المشير طنطاوي في لحظة أنه يمكنه الحكم بعد الاتفاق مع الإسلاميين، إخوانا وسلفيين، وذلك بتصفية المجموعات النشيطة الخارجة عن السيطرة بصنع مصيدة كبيرة تنهي وجودهم، قتلا أو اعتقالا.
وهذا سر الفعل غير المبرر بهجوم وحدات من القوات الخاصة على 150 معتصماً من أسر المصابين والشهداء في ميدان التحرير وهو هجوم استخدم العنف المفرط والوحشية الرمزية بإلقاء الجثث بين أكوام القمامة.
كانت رسالة فورية: نحن وحوش وقساة القلب، ووحشيتنا أو إجرامنا لن توقفه دموعكم، ولا قلوبكم، ولا إنسانيتكم. وكان الرد أقوى مما توقع صاحب القرار يومها – المشير طنطاوي – الذي تخيل أنه من الممكن أن يصل الى أن يمد حكمه المؤقت الى أجل غير مسمى لتصبح المعادلة: طنطاوي يحكم والإخوان تدير. وقتها أدار المجلس العسكري وزارة الداخلية بمنطق حرب «التخلص من الثورة»، والذي فشل بعدما فوجئ الجميع باتساع المواجهات وتسارع النزول الى الشوارع في مليونيات أجبرت المشير والمجلس على إعلان موعد نهاية المرحلة الانتقالية.
ولان لا أحد يقرأ التاريخ، أو ان مركز إدارة تركيبة 30 يونيو يتفكك أو ينفلت لتوسيع رقع كل جناح أو مؤسسة، فإن عملية جنون الدولة الامنية أكبر مؤشر لما يمكن ان يسمى «انقلاباً على 30 يونيو» التي أراد فيها أكثر من 30 مليون مصري التخلص من المستبد الجديد/الإخوان ومندوبهم في القصر… ليس لأنهم يكرهون الإخوان ولا لأنهم لا يحبون طريقة المرسي في الكلام ولكن لان المرسي نسخة ركيكة من مبارك والنظام الذي كان يبنيه إعادة ترميم لسلطوية مبارك وإعادة تشغيل لماكينات القمع.
هناك اذاً قوى تتمتع بالصلف والغباء تتصور أنه يمكن إعادة تركيب مباركية من دون مبارك، وهذا ما جعلهم يظهرون امس بكل بجاحتهم.
لا يرون في أي خلاف سوى مؤامرة أو خيانة على اعتبار ان كلام صاحب القرار هو الوطنية والخلاف معه عمالة، أو مؤامرة ضد الدولة.
هذه النظرة تتعامل بمنطق لويس الرابع عشر: أنا الدولة.
وهنا يلتقي مستشار الرئيس بخطابه المتأنق وهو يعتبر وقفة احتجاجية ضد المحاكمات العسكرية عملا ضد الدولة، وهدما لدولة القانون، مع مصدر الجهة السيادية الذي لف كل القنوات ليقول ان التظاهرات المعترضة على مواد في الدستور أو قانون التظاهر مؤامرة مدفوعة الثمن من دول لم يذكرها، ورصدت مبلغاً خرافيا هو 50 مليار دولار، وكل الصحف والفضائيات نقلت الخبر من دون أن تفكر لحظة في التفاصيل ومنطقها.
وكلاهما يلتقي مع الضابط وأمين الشرطة والجندي الذين كانوا ينظرون الى الكاميرات وهي تصورهم أثناء الاعتداءات الجسدية واللفظية وإهدار الكرامة لمواطنين قرروا التعبير عن رأيهم بالوقوف أمام لجنة كتابة الدستور. هل هذه دولة القانون يا سيادة المستشار؟ ومن دفع لهذه القوة الامنية لتعطيل مسار 30 يونيو يا سيادة المصدر السيادي؟
قانون التظاهر كان نقطة الزيت التي ستشغل ماكينات السيطرة التقليدية كما تصورت كتل الدولة الامنية ومن تحالفهم من أثرياء الدولة /أو المنتظرين للقفزة الاخيرة في طريق عودتهم الى مربعاتهم التي سلبها الثوار منهم في 25 يناير ثم سلبها من الذي أرادوا احتلالها في 30 يونيو.
لم يكن التحالف الذي أسقط المرسي وجماعته قائما على النيات المعلنة، لكنه قام على التقاء مصلحة الثوار وقطاعات من الصامتين على الكنبة مع مؤسسات الدولة ان إعادة تركيب نظام مبارك بنسخته الاخوانية سيدمر الدولة… الآن لماذا تعيدون تركيب النظام القديم؟ كيف تتصورون أن تكبير السلطة ونفخها لن يقودكم الى الانقراض كما تنقرض الديناصورات؟
هي قوى خفية تمثل رأس الحربة في التحالف الذي كان يحكم أيام مبارك، وأعيد ترتيبه أيام الإخوان، لكنه يعود الآن بعدما فشل الاخوان في قيادة هذا التحالف بين الطبقة السياسية التي تسيطر عليها أجهزة أمنية وإسلاميين من طيف مختلف مهمتهم منح الاستبداد شرعية دينية والحصول في مقابله على حق بناء سلطتهم على المجتمع، وطبقة من المستفيدين بتصاريح تكوين الثروات ترتبط بالسلطة وتدعمها ماليا ويكون لها جمهورها المعادي للتغيير.
هذا التحالف سقط في ٢٥ يناير، ولهذا يسمي المستفيدين من «بقاء الوضع على ما هو عليه» الثورة نكسة، والشطار منهم حاولوا الهروب من السفينة الغارقة، لكن الاخوان أعادوا إغراقها، وها هي في الطريق الى الغرق من جديد، فلا مستقبل لدولة يقودها هذا التحالف، إلا اذا اعتبرنا موديل الدول الفاشلة من الصومال وحتى أفغانستان والسودان يمكن ان يكون مستقبلا، أو ان عودة الاستبداد الى دول أوروبا الشرقية – برعاية أميركية – يمكن ان يكون أفق أحلام من كسروا الأقفاص في ٢٥ يناير أو من كانوا نواة ٣٠ يونيو حيث كان الخروج من أجل تحطيم الأقفاص الاخوانية الجديدة وليس من أجل إعادة بناء الأقفاص القديمة بعد تغير لون الطلاء أو مصاحبة البناء بأغاني العاطفة والحنان من السلطة على الشعب. أغان يستبدلون بها واقعا حقيقيا لم يتغير أو أقيمت الأسوار العالية لمنع التغيير.
هذه القوى الخفية تعاني شيخوخة وفقدان إمكانات وهذا ما يجعلها تستسلم لأدواتها أو تقع في أسر هذه الأدوات لتكون هي الهدف، بالضبط كما يحاول عجوز قليل الحيلة حماية ممتلكاته الواسعة، ولأنه يشعر بفقدان القدرة مع اتساع حدود الملكية فإنه يتصور أن الحل في تقوية نظام حراسته، أو أنظمة التأمين، وهو لا يعلم ان هذه الأدوات ستلتهمه كما تلتهم كلاب الحراسة صاحبها العجوز.
هذه القوى الخفية التي لا تظهر في العلن، أو تبدو من بعض التصريحات كأنها جهة تتفاوض معها لجنة الخمسين، للوصول الى صيغة توافق أو حلول وسطى، فتتغير صيغ المواد لمصلحة هذه القوى بينما تشحب الحقوق والحريات وتتحول الى فخاخ منصوبة وليست فضاءً جديداً نبني فيه دولة جديدة تنقذنا من وحل الاستبداد وانحطاطه.
انها معادلة قلة الحيلة، ستسمع عبارات تتكرر «هذا أقصى ما نستطيع» أو «الظروف ليست مناسبة لأكثر من ذلك» و«خلوا بالكم أحوال البلد متسمحش».
وهي بالمناسبة نفس ما كان يقال طوال سنوات بناء الدولة الحديثة، ليبرر عدم اكتمال البناء، أو ليمنح المستبد فرصة استكمال بناء إقطاعياته أو أبعديات حكمه الذي يقودنا من فشل الى فشل، ومن كارثة الى اخرى… وكل مستبد جديد له قوى خفية تلعب لعبتها في الغرف المغلقة لتعيد بناء دولة «الظروف التي لا تسمح». إذاً فمتى تسمح بعدما منحنا الكرماء أرواحهم في سبيل تغيير الظروف، وأصبح المجتمع كله شريكاً في القرار وبكل أطيافه وشرائحه الاجتماعية ليصنع ندية أسقط الاخوان بعدما تصوروا أنهم المستبد الجديد، فلم تكن مؤسسات الدولة بعمقها وقدراتها التي تظنون انها خرافية، قادرة على إسقاط الاخوان لولا حركة القوى الحية في المجتمع، تلك التي تريد القوى الخفية شيطنتها الآن أو إماتتها لان «الظروف لا تسمح»…. أو لأنها لا تسمح سوى بديباجات مستوحاة من كتاب الأغاني أو كراسات الإنشاء أيام حصص التربية القومية.
2 السلطوي: ملاك الدولة الحائر
لا يشبه الدكتور حسام عيسى (نائب رئيس الحكومة ووزير التعليم العالي) الدكتور فتحي سرور (رئيس مجلس الشعب الأسبق)، رغم انهما قادمان الى السلطة من المسار نفسه (الأستاذية في القانون).
كلاهما اختلفت صورته بعدما أصبح في السلطة، رغم أن عمر الدكتور حسام على الكرسي ما زال في عداد الشهور القليلة مقارنة بسنوات الدكتور فتحي المديدة على الكرسي. التحوّل في الصورة يصيب كثيرين بالدهشة والإحباط فيما تفسره الحكمة الشعبية المصرية بأنها لعنة الكرسي، أو متعة السلطة الاعلى في قائمة متع الحياة.
الغريب أن الجالس على الكرسي يستخدم صورته القديمة مدافعا عن نفسه، بينما هذه الصورة نفسها تعتبر دليل إدانة، ولا يقتصر الامر على سحر الكرسي، أو لوثة عدم مغادرته، أو استمتاع بالخدر الناعم في الحشو الفاخم، أو شعور بالأمان في ظل سلطة ليست هناك ضمانات لاستمرارها بعد الخروج… فالطريق بين الكرسي والزنزانة محفور بتاريخ طويل، يزداد تعقيداً في لحظات التحول بتراجيديتها المفرطة التي وصلت بعد 25 يناير الى حدود لم تخطر ببال، حيث يُحاكم رئيسان سابقان، أحدهما استمر 30 سنة على الكرسي بينما الآخر لم يكمل 12 شهراً.
بين المتعة والخوف، يمكن فهم التحولات في ظل نظام يُبنى على السلطوية كأداة وحيدة (لا حل إلا بتجميع السلطات في قبضة واحدة)… والحكم هنا يعتمد دائما على الظرف والاستثناء. ليس المهم أنه قد تمر 60 سنة كاملة تحت حكم الاستثناء، إلا أن من يدخل السلطة ينتابه شعور بأنه في «مهمة رسولية» أو «مبعوث عناية إلهية»، وهنا يتلبسه بالتدريج شعور الملاك السلطوي، فهو يعرف أكثر لأن لا أحد غير السلطة يملك المعرفة، وعادة تكون المعرفة صوراً تصنعها تقارير الأجهزة الامنية، لتبقي الشعور بالخطر دائما والاحتياج اليها أبديا… ليس باعتبارها أجهزة حماية، بل لكونها العصب الحيوي الجامع للدولة المتمثلة فيه «مصلحتها العليا».
وهذه صورة قد تفسر النزوع السلطوي عند نائب رئيس الحكومة الحالية في مصر والقادم من تاريخ في المعارضة – ناصرية الهوى – مصحوبة بسمعة أخلاقية تتميز بالنزاهة.
وهنا لا بد من إشارة الى اختلاف جوهري في المسارات باتجاه السلطوية، وهو أن فتحي سرور استمتع بالسلطة متأخراً (في عمر يسبق حسام عيسى). وصلها وهو يقارب الستين والتصق ٢١ سنة كاملة بمقعد رئيس مجلس الشعب، بعد سنوات في وزارة التعليم. الشعور بالمتعة حفر له بالتدريج طريقاً الى صورته الجديدة كأشهر الطهاة في مطابخ السلطة، بعدما كان أحد أهم مدرّسي القانون والدستور في كليات الحقوق… الصورة القديمة ظلت شبحاً يطارد الصورة الجديدة للدكتور سرور الذي ابتسم ذات مرة حين واجهه أحد المحامين بتناقض مواد في قانون يصدره البرلمان مع قواعد ما زالت موجودة في كتب القانون التي تحمل اسمه.
سرور كان ضمن ظاهرة في سلطة مبارك حيث بدأ تقريباً كل الجالسين على الكراسي/ المهمة «حياتهم» في سن الشيخوخة، وعرفوا (بمن فيهم مبارك) متع الحياة قبل السن التي يعتقد فيها الناس أنه عليهم الاستعداد للوداع. وهنا يبدو التمسك بالكرسي له أبعاد دفاعية عن استمرار الحياة المديدة… لماذا اذاً تنتاب النزعة السلطوية وزيراً في حكومة انتقالية؟ وفي لحظة عابرة كما كانت لحظات تصورها أصحابها (العسكر في الانتقالية الاولى والاخوان في سنتهم الاولى) مطلقة ودائمة، لكنهم كانوا عابرين في لحظة عابرة.
وفي موقف مشابه لما فعله الدكتور حسام عيسى… احترنا في المستشار أحمد مكي.
صُدمنا: كيف ينحاز المستشار الجليل للسلطة ويتصرف عكس ما كان يفعل عندما كان أحد أعمدة تيار استقلال القضاء؟
صُدمنا أكثر: ماذا تفعل الكراسي بالملائكة؟
لم يكن احمد مكي الوحيد أو الاول…انها مسارات طويلة، ورحلة متكررة، وها نحن أمام مجموعة اخرى تعيد الاستعراض نفسه. الملائكة الذين كانوا معنا في المعارضة ظهرت لهم أنياب، وحناجرهم تحولت الى قاذفات صواريخ دفاعية عن السلطة بل عن جرائمها.
الدكتور حسام عيسى يتقدم هذه الفرقة التي ظهرت في المؤتمر الصحافي المدافع عن قانون التظاهر. ظهر وكأنه أراد الحصول منفردا على شارة «الكبتنة» في الدفاع عن دولة فاشلة إلا في سلطويتها. قال الدكتور بكل ما منحته الحنجرة من موهبة في الإيحاء بقوة السلطة: «احنا موش دولة وقيع».
ولا يمكن الرد على الدكتور حسام بأكثر من مشاهد انتهاك «دولته» لكل قواعد الدولة الديموقراطية، وليس في الامر فقدان ذاكرة أو نسيان ما كان يقال في مواقع المعارضة والنقد للسلطة، أو حتى تكرار لمقولة المستشار محمود مكي الشهيرة: «البقاء للأقوى».
المستشار محمود مكي قالها وهو نائب رئيس جمهورية بينما على باب القصر قوات شرطة وميليشيات إخوان تشن حرباً على الواقفين ضد الإعلان الدستوري الذي كان لعنة على مرسي وكل سلطوي التصق بكراسيه.
المشهد يتكرر… هناك من يدافع عن سلطوية الدولة/ ولا يرى منها غير تلك السلطوية الاستعراضية، وهي في الحقيقة فخ كاشف للسلطوي الكامن في أعماق نماذج مثل المستشار مكي والدكتور حسام.
وهنا لن أجد لتفسير ظهور الأنياب للدكتور عيسى – باعتباره كان ملاكا معارضا وتحول أمام منصات السلطة الى حنجرة متوحشة – لم أجد سوى مقال حاولت أن أفسر به ما حدث للمستشار مكي… ماذا تفعل السلطة في الملائكة؟
وكتبت:
هناك فرق بين السياسي والسلطوي.
السياسي لاعب لا وجود له إلا بالملعب أي بتعدد اللاعبين… ويدرك بقانون السياسة أنه لا لعب إلا بالاعتراف بالآخرين… ومن دون هذا الاعتراف يُلغى اللعب ويتحول الى تقسيمة أو صراعات داخل القصور على من يقتل خصمه اولا.
السياسة ليست الكذب أو اللوع، لكنها اعتراف بوجود الآخرين وأحقيتهم في المشاركة، ولهذا فإنّ كلام السياسي يظل محل مراجعة عكس كلام السلطة التي ينزل كلامها من أعلى وهو جزء من هيبتها أو قدرتها على التنويم المغناطيسي للجماهير المنتظرة كما كان يفعل هتلر ومن سار على دربه.
يمكن للسياسي اذاً ان يصل للسلطة… لكنه يعرف أنه عابر في فترة مهما طالت عابرة، وهذا ما يجعله يمارس هذه السلطة بهذا الوعي.
وعدم إدراك الفرق بين السياسي والسلطوي هو تقريبا ما يفسر تغير شخصيات محل احترام بمجرد عبورها عتبة السلطة.
أغلب هؤلاء ليسوا سياسيين بمعنى من المعاني… لكنه يمتلك سلطة معنوية تتحول الى سلطة مجردة بسرعة مدهشة.
ماذا يحدث لمن يصل الى السلطة؟ هل يدخل فضاء سحريا يبدل كيانه ويحوله الى كائن سلطة؟
قلة الكفاءة أعادت الدولة في مصر الى عصورها البدائية، حيث الأساسيات صعبة من أنبوبة الغاز الى الطريق الآمن، والتصورات السلطوية ايضا أعادت الرئيس ومستشاريه الى ما قبل الدولة.
كل فريق حاكم من فصائل عاجزة في السياسة، يستبدلونها بسلطتهم المعنوية السابقة، ويكاد يكون شعارهم: «ما دمنا في الحكم… فاطمئنوا…».
نرجسية ترى الديموقراطية وسيلة لوصول الحكم الى مستحقيه، وهم بالطبع مستحقّوه، ومجرد وجود كل هؤلاء الرجال الطيبين في موقع السلطة، فإن الخير تحقق.
هذه النرجسية كاشفة الآن لمأزق رهيب … تعيد فيه شخصيات قادمة من جبهة الإنقاذ ما فعله تيار استقلال القضاء (المستشاران مكي والغرياني ومن سار على دربهم).
هم جميعا شركاء في إعادة هندسة الفراغ السياسي لتكون السلطة مركزها المسيطر والمهيمن، وحجتهم أن السلطة الآن نظيفة اليد.
الأخلاق الشخصية هنا بديلة للسياسة، مع أن طبيعة الشخص ترتبك أمام السياسة التي هي عملية لها سيرورة وليست حدثا تستعرض فيه الأخلاق نصاعتها، لكنها قواعد توضع فوق الجميع ويتساوى أمامها الجميع … ولا ترتبط بحسن أخلاق أحد أو بملائكية آخر.. وهكذا.
وهذا المفهوم يرتبط بالسلطة ويرى «أنني ما دمت موجودا في السلطة فهي نظيفة..» وليغلق الفضاء على هذه الذوات النظيفة .. ولا مجال للحريات أو لهندسة خارج حدود هذه الهيبة النرجسية…
هذا تقريبا ما يدور في عقلية الحكم، فهم يستبدلون السياسة بالأخلاق، ويعتبرون ذواتهم بديلا من الكيانات السياسية، ووجودهم وحده يكفي.
وهي مفاهيم وتركيبات ستدمر نفسها بعد أن تكون قد ساهمت في مزيد من الكوارث.
3 سيمفونية دوران «العجلة»
«نعم» مكتوبة باللون الاخضر… و«الدستور» باللون الابيض… هكذا تنتشر اعلانات في كل انحاء القاهرة تدعو الناس الى «المشاركة» باعتبارها «انتصاراً لثورة 30 يونيو و25 يناير».
من صاحب هذه الحملة الاعلانية التي تدعو الى الموافقة على دستور لم ينته من كتابته بعد؟
لا احد يعلم، كما انها حملة تتجاوز البروباغندا التقليدية: قل نعم للاستقرار / حسب خطاب الدولة القديمة. ثم قل نعم لتدخل الجنة / حسب خطاب الجماعات الاسلامية.
هذه المرة «نعم» لصالح مجموعات لم تعلن عن نفسها – لا دولة ولا جماعات – انهم غالبا مجموعات تدرك ان هناك عطاء قادماً على من سيلعب دور «الجهاز السياسي» لتركيبة 30 يونيو بعد استحواذ الدولة الأمنية عليها. فالأمن لن يحكم بالتأكيد، فمن سيقدم طلبات للدخول في طبقة الحكم الجديدة؟
انهم القادمون او العائدون من مجموعات حاملي تصاريح تكوين الثروات… هم يتصورون قدرتهم وحدهم على ترسية عطاء «الجهاز السياسي» لدولة أمنية بتركيبة جديدة.
الأثرياء بأوامر الدولة يعتمدون على ترويج خطاب شعبوي عن توقف «عجلة الانتاج» بسبب «الثورة».
حتى من لم يتأثر بتوقف العجلة، فإنه يردد المقولات من دون التمهل او النظر الى نفسه ليكتشف أن الوضع ليس كارثة، وأن اي تغيير أصغر من ثورة يمكنه ان يحدث اهتزازا في الأوضاع المالية ويؤثر على الاقتصاد.
النظر من دون تأثير الاجابات السهلة سيكشف ان مضخة السلع الترفيهية لم تتأثر، وزيارة صغيرة الى السوبر ماركت او معارض السيارات ومحلات الملابس المستوردة… ستؤكد ان عجلة الاستهلاك لم تتوقف، وبالطبع معها اقتصاد سري كان يمثل على الاقل نسبة 40 في المئة من اقتصاد الدولة ايام مبارك، وهذا سر تماسك الاقتصاد المصري رغم كل الصرخات باقـتراب «وقوع البلد».
ويمكن ببساطة اكتشاف ان التحذيرات من «الوقوع» او تدهور الوضع الاقتصادي الى حد الافلاس، او الدخول في دائرة الازمات الكبري بعدم العثور على الاحتياجات الرئيسية. هذه التحذيرات جزء من خطاب «الهيمنة» بالسلب لتوقيف التغيير او لشيطنة المطالبين به.
والواقع يشير الى «العجلة» ارتبكت مع غياب «الرأس الكبير» الذي يدير العجلة لصالح من اختارتهم من نادي المحظوظين.
اقتصاد مصر لم يكن اقتصادا بالمعنى المتعارف عليه في دول رأسمالية حقيقية.
في مصر رأسمالية متوحشة، تعتمد على توزيع الانصبة على «الحبايب والمحاسيب».
هذا النموذج الاقتصادي قادر، وفي ظل دولة استبداد، ان يحول «المافيا» الى اسلوب حكم.
«الشلة» كانت اسلوب حكم ما بعد الثورة، وميزة شلة مبارك أنها لا تلتف حول مشروع كبير، مشروعها الوحيد هو المصلحة ولا صوت يعلو فوق صوت المصلحة.
من هذه الفكرة ولد احمد عز، رمز مافيا مبارك، الذي كان الضحية الاولى التي قدمت لجماهير الثورة. هو الأذكى والأقدر مالياً. الذكاء والمال سلاحان يُستخدمان عادة في قصص من هذا النوع، لكن مع الحالم بمقعد الرجل الأول، الأمر يختلف.
هو يعرف جيداً ما يفتقده، بداية من الجاذبية الاجتماعية والكاريزما الجماهيرية، لكنه تعلم فن الإدارة. عاش في الظل طويلاً، لكنه وعندما قرر القفز إلى أعلى، لم تكن قفزات بسيطة، كانت درساً في الركوب على الأكتاف لتعويض نقصان الطول الجسدي… ركوب أنيق.
السياسة بالنسبة لنوعية احمد عز لم تكن الا لمزيد من ادارة عجلة الاقتصاد لتصب في حسابه. وهكذا قفزت الثروة على نحو خرافي (40 مليار جنيه) لا يمكن تصديقه نظرياً. وفتح له كنز احتكار صناعة إستراتيجية لم يفهم أحد من المقربين لماذا يلتهم السوق وحده؟ ولم يكن أحد يمتلك الإجابة لأن السؤال ليس دقيقاً، فهو ليس وحده، إنه يدير أموال «الرجل الكبير» وهذا سر الموافقة على استحواذه على شركة كان يرأس مجلس إدارتها.
ليس وحده. لكــنه لعــب على شبق «الرجل الكبير» للأموال ليبقى قريــباً ومخلصاً في صمت، متحملاً الهجوم الشرس عليه باعتباره «عدو الشعب».
هنا فإن غياب الرأس الكبير وراء القضبان يعطل دوران عجلة الانتاج، لانها تجعل المافيا تخفي الثروات، و تمنع الضخ، انتظارا لمن يحتل موقع الرجل الذي غاب في زنزانته الطبية… وببساطة فإن توقف عجلة الانتاج هو تعطل دوران الاقتصاد لصالح المافيا القديمة.
والاصرار على عودة العجلة بقانونها القديم هو استمرار للدائرة القديمة التي ستفرز اعضاء جددا في المافيا تبحث عن رأس كبير. وماهي الا محاولات اعادة اقتصاد الحبايب والمحاسيب.