حكايات سرية في شقوق جدران دمشق!

أسرتني شخصية الشيخ “أبو الورق”، وإلى الآن أعتقد أنه جزء من الذاكرة الشعبية لمدينة دمشق في جهة من جهاتها، أي في منطقة الشيخ محي الدين والجسر الأبيض التي كنت أعيش فيها، ففي دمشق نماذج من شخصيات يعرفها المجتمع لسلوك مميز لها أو لقصة عاشتها فاشتهرت بها، وهناك نوع من الشخصيات المثيرة للانتباه التي يلتف الأطفال حولها لميزة أو نقص فيها، كشخصية الملاك الأبيض في منطقة باب توما، أو كشخصية الشيخ أبو الورق التي سأحكي عنها!

كان الشيخ “أبو الورق” هادئ الملامح. تراه باسم الوجه. يخرج من منزله بين فترة وأخرى، يترنح في مشيته، وقد رسمت لحيته البيضاء على وجهه هيبة من نوع خاص لاتلبث أن تنهار عندما يناديه أحد ما : الله، فيرد بانفعال وصوت عال : هووو !

كان الشتاء يُشعل في نفسي رغبة في مشاهدته، فمدرستي الابتدائية قريبة من المكان الذي يمر فيه، ولم يكن يظهر إلا في النهارات المشمسة، وكنت أصادفه في تلك النهارات عند الظهر في لحظة انصراف تلاميذ المدارس، وكان ينحدر من العفيف إلى الجسر الأبيض، فيلاحقه التلاميذ يحركون في روحه تيمة الإيمان الكبرى، فيرددون الشطر الأول من تلك التيمة، أي لفظ الجلالة، فإذا هو يصرخ : هووو! ويغمض عينيه ويحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال مستغرقا في معاني العبارة التي يحب !

ليست هذه الملاحظة الوحيدة التي كانت تثير انتباهي بالشيخ ” أبو الورق” فقد كنت أراه في بعض الأحيان، وقد استوقفته قطعة ورق مرمية في الشارع، فينحني لكي يلتقطها من الأرض، ثم يضعها في شق في شقوق الجدران، أو في جذع من جذوع الأشجار!

أثارت علاقته مع الورق هذه فضولي لأعرف سر تلك الأوراق وما فيها، فسرقت واحدة منها كان قد وضعها في أحد الشقوق، فإذا هي ورقة روزنامة كتب على قفاها قصة مقتبسة عن الصوفيين ، وأتذكر أن القصة تتعلق بحكاية بالإمام الصوفي إبراهيم بن الأدهم!

****

كانت قصة إبراهيم ابن الأدهم من أوائل القصص التي قرأتها في حياتي، فهو واحد من الصوفيين الذين حكت عنهم الرسالة القشيرية ومنهم أبو يزيد البسطامي وبشر الحافي وذو النون المصري وغيرهم.. وتقول القصة : إن إبراهيم بن الأدهم كان صوفيا متعبدا عرفه الناس في عصره إماما تقيا ورعا، وأنه في أحد الأيام الماطرة لجأ إلى مسجد في البصرة فصلى العشاء، واعتكف في المسجد ليتعبد، لكن القائمين على المسجد الذين يجهلون من هو أرغموه على مغادرة المسجد بسبب إغلاقه بعد الصلاة!

خرج إبراهيم ابن الأدهم، ليجلس عند الباب، فإذا بخباز يمر قاصدا مخبزه، فيرثي لحاله، ويدعوه لمرافقته إلى المخبز بدلا من الوقوف تحت المطر، ويوافق إبراهيم ، وفي المخبز يكتشف أن الخباز ينشغل طيلة الوقت بالتسبيح وترديد الحمد والشكر لله، فسأله: إلا تعرف غير هذا؟ فرد الخباز: منذ عشرين سنه وأنا لا أقول غير هذا. وأضاف يشرح حاله : أنا لا أكلم أحدا إلا عندما اُسأل، فإذا سُئلت أجبت وإلا اشتغلت بذكر الله..

وأسرّ الخباز لإبراهيم ابن الأدهم أن الله كافأه على ذلك بأنه أصبح مستجاب الدعاء . وقال:
ــ لا اذكر أني دعوت الله ولم يستجب لي إلا دعوة واحده!

سأله: وما هي هذه الدعوة؟ فقال الخباز: دعوت الله أن أرى إبراهيم بن ادهم فلم يستجب لي!

بكى إبراهيم ابن الأدهم وقال: والله انك خير من إبراهيم بن الأدهم ساقه الله رغما عن انفه إليك لتراه !

****

شغلتني شقوق الجدران والأشجار بالأوراق التي تحتويها، فاعتدت على مشاوير متتالية تأخذني إلى التاريخ والأدب والحكم، وكنت أقرأ ما أجده بغض النظر عن محتواه، وكانت جدران كثيرة من بيوت الشام عتيقة مشققة مليئة بالأوراق، وكانت جذوع الأشجار تحتضنها بحنان أخّاذ، وكان علي أن أقرأ الأوراق وأعيدها إلى مكانها!

عرفت سريعا أن حفظ الكلام المكتوب أو المطبوع على ورق من أقدام المارة عادة دمشقية معروفة، فالكلام المنشور عند أهل الشام مقدس لأنه فيه من الأدب والحكم والمعرفة ما يجعل منه نعمة من نعم الله، والمقدس لاينبغي أن تداس عليه الأقدام، لذلك كان بإمكاني أن أجد الكثير لأقرأه ..

سحرتني الأحاديثُ النبوية عن الصدق وحسن المعاملة المنشورة على أوراق الروزنامات فحفظتُ الكثير منها، وقرأتُ على تلك الأوراق شيئا من حكم ابن عطاء السكندري، ونصائح لقمان الحكيم لأبنائه ، وهناك أوراق فيها الجميل من الشعر والكثير من أسماء الشعراء، وفي ورقة صفراء قرأتُ من تاريخ الخلفاء عن شخص حكيم اسمه “مُقاتل بن سليمان” دخل على “المنصور” يوم بُويعَ بالخلافة، فقال له “المنصور” : عِظني يا “مُقاتل” ! فسأله مقاتل :أعظُك بما رأيت ، أم بما سمعت؟ فرد الخليفة : بما رأيت … وعندها قال مقاتل :

يا أمير المؤمين .. إن عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولداً وترك ثمانية عشر ديناراً، كُفّنَ بخمسة دنانير، واشتُريَ له قبر بأربعة دنانير وَوزّع الباقي على أبنائه… أما هشام بن عبد الملك، فأنجب أحد عشر ولدا، وكان نصيب كلّ ولدٍ من التركة مليون دينار …

وقال مقاتل وهو يتم الحكاية للخليفة : والله … يا أمير المؤمين .. لقد رأيت في يومٍ واحدٍ أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يتصدق بمائة فرس للجهاد في سبيل الله، وأحد أبناء هشام يتسول في الأسواق!!

****

في ورقة عتيقة مطوية قرأتُ اسم يوحنا المعمدان وفيها :

أنا أعمّدكم بماء للتوبة، ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني الذي لست أهلا أن أحمل حذاءه.
هو سيعمدكم بالروح القدس ..

وفي ورقة مطوية أخرى قرأتْ :

حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، إما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين.

وتحت تلك الورقة ، كان ثمة أوراق أخرى جاء في واحدة منها :

ما من مرة تحققت الوحدة إلا تبعتها القوة، وما من مرة توفرت القوة إلا وكانت الوحدة نتيجة طبيعية لها. وليس محض صدفة أن إشاعة الفرقة وإقامة الحدود والحواجز كان أول ما يفعله كل من يريد أن يتمكن فى المنطقة ويسيطر عليها..

ومن الأشعار التي احتضنها شق في جذع شجرة عجوز :

أنا الدمشقيُّ لو شرّحتمُ جسدي لسـالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
و لو فتحـتُم شراييني بمديتكـم سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا وما لقلـبي –إذا أحببـتُ- جـرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكـي إذ تعانقـني و للمـآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمـينِ حقـولٌ في منازلنـا وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتـاحُ

****

مرت سنون كثيرة..

اختفتْ تلك الأوراق، وسال صمغ أصفر من شقوق الأشجار، وتراجعتْ بيوتُ الطين، وفي الأبنية العالية ليس هناك من شقوق تحتضن أوراقا دمشقية كالأوراق التي قرأتها ..

غدت المشاوير التي اعتدتُ عليها بحثا عن الأوراق المحفوظة من الأقدام خالية المعنى، فيراني الناس شاردا، وكأن شيئا ما فقدته من روحي، أما أنا فأرى وجهي في زجاج المتاجر الموزعة على الأرصفة رماديا ضاعت منه الحياة ..

لم أتوقف عن مشاويري تلك ، كنت أحس أنها تأخذني إلى ملكوت سحري في مدينة أحبها، وفي هذا الملكوت ينبغي أن أبقى.. حتى الحرب لم تجعلني أتوقف عن تلك المشاوير، وكانت شقوق الأشجار فارغة . باهتة . مثل وعاء عتيق خال من الطعام أمام رجل جائع ..

في آخر المشاوير ، ظهر لي الشيخ “أبو الورق” كان يمشي وهو يترنح ويردد دون أن يحفّزه تلاميذ المدارس على استرجاع تيمته التي يحبها : الله..هووو. الله..هووو. الله.. هووو..

سمعتُ صوتُه بالوتيرة نفسها التي كان يصدح بها أيام زمان ..

لحقتُ به، فإذا به يتوقف أمام شجرة عجوز، ويحشرُ في أحد شقوقها ورقة بيضاء. نعم ورقة بيضاء ناصعة ، ثم يمضي، فإذا أنا أهرع إليها . أسحبُها. دون أن أنظر حولي، أفتحها. كانت مكتوبة بخط اليد . خط واضح بحروف صغيرة، وفي تلك الورقة عبارة واحدة تقول : يا أهل الشام .. الحب هو الطريق إلى الله والإنسان !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى