شرفات

حكاية الامتحانات وآخر السنة : أرجوكم لا تحدّثوا مفهوم الغش!

عماد نداف

لا أستطيع أن أنزع من مخيلتي تلك الأيام التي عشنا فيها أيام الامتحانات ، سواء في الامتحانات الانتقالية أو الشهادات، ففي زمان دراستنا كان الطالب يأخذ شهادة عند نجاحه في الصف السادس ، ويحكي عنه الناس إنه حائز على (سرتفيكا)، وكانت بعض المناطق تطلق عليه لقب (أستاذ)، وكان حامل السرتفيكا جاهزاً لتقبل المعرفة في الشعر والأدب والرياضيات والجغرافيا والمناخ  !

كانت نتائج الشهادات تنشر في الصحف وتبث في الإذاعة، وكان بائع الصحف، عند ظهور النتائج ، يركض في الشارع باكراً ويصيح: أسماء الناجحين والناجحات (سرتفيكا، أو كفاءة ، أو بكالوريا)، وبعض السوريين يحفظون نسخا من تلك الصحف التي تحمل أسماء نجاحهم، ويعتزون بها، وكأنها لحظة خاصة في حياة كل منهم ..

وبعد مضي أكثر من خمسين عاما ، تروادني في كثير من الأحيان ، تلك الصورة الأمينة  لوصول أسئلة الامتحانات، حيث يفتح رئيس القاعة الظرف المختوم أمام الجميع ويقدم نسخ الأسئلة على الطلاب بقداسة ، ويبدأ الجميع خوض الامتحان، وكنت أقلب نسخة الأسئلة، وأتنفس قليلاً ليذهب القلق عني قبل الشروع بالاجابة .

لم يكن معنا هواتف نقالة، ولم تكن هناك شبكة انترنت، ولا كانت هناك مدارس 5 نجوم ، وكانت جيوبنا فارغة إلا من القليل .  الهاجس الأساسي هو الاستعداد للامتحان بدأب وصبر وأمانة، وهذا لايعني أنه لم يكن هناك محاولات من البعض لاستراق النظر أو لكتابة أجوبة محتملة على أوراق صغيرة (راشيتة)، بالعكس كانت موجودة دائما، ولكن اسمها المتعارف عليه هو الغش، وأذكر أن أحد الطلاب المجاور لي في المقعد الامتحاني طلب مني أن (أغششه في امتحان العربي والتربية الوطنية)، مقابل أن (يغششني في الفيزياء والرياضيات) !

لاحظوا هاتين المفردتين : (أغششه)، (يغششني)، والغش في اللغة يحمل معنى السوء ويستحق العقاب، يعرف ذلك حتى (الغشاش) نفسه!

والجميل أن الامتحانات كانت تأتي في الربيع حيث تصفو النفوس وتنتعش، وتخضر الأرض، وتزهر الأشجار، وكان الصيف يأتي بعدها للفسح والراحة والاستجمام، اللهم إلا الطلاب الذين يبحثون عن عمل لمساعدة أسرهم.

بمعنى آخر، كانت طقوس الامتحانات نموذجاً من الطقوس المميزة في حياة السوريين، ولها عاداتها وأخلاقها ومعانيها، ودائماً كانت الأفراح شكلاً احتفالياً من أشكال الاحتفاء بالنجاح، وكان الحزن يسيطر على محيط الراسبين..

تعلمنا من ذلك الزمن : احترام التعليم ومؤسساته، واحترام المعلمين مربي الأجيال، وفي الثقافة الشعبية ضربت الأمثال ونظمت الأشعار تشيد بالناجحين والمعلمين وتقدس العلم وتفتح على أجيال جديدة واثقة بالغد.

هل نشعر أن شيئا من هذا نفقده اليوم؟!

هل تراجع التعليم فعلا أم تراجعت قيمته في المجتمع ؟!

أكثر مايلفت النظر هذه الأيام هو سخونة قضية الامتحانات والمدارس والجامعات في بلادنا، فظاهرة الاهتمام بتعليم أفراد الأسرة ظاهرة صحية، ونعتز بها جميعا، لذلك نجد الآباء أحيانا يقطعون عن أفواههم الطعام لتأمين نجاح أولادهم لإحراز قبول في الجامعات.

ولكن هناك غرابة ، ينبغي التوقف عندها على هذا الصعيد، وهي أن ما توفر لطلاب اليوم هو أكبر بكثير مما توفر للأجيال السابقة، ومع ذلك يصرف الكثير على الأولاد لتعليمهم، وتصرف الدولة الكثير لتأمين العملية التعليمية، ومع ذلك تنامت ظاهرة الغش في المجتمع وفي الأسواق وفي الصناعة وفي الزراعة وخاصة خلال الحرب، وكبرت وفردت جناحيها، وهذا وارد في حياة الشعوب، لكن المرفوض هو الاستكانة لها لتصبح حالة شائعة أو ربما عرفاً .

والأغرب على هذا الصعيد أن أي إجراء يطال هذه الظاهرة أو أصحابها يقابل بالاستهجان من فئات اجتماعية ، وربما بعض الصحفيين، وكأن محاربة الغش ليست من شيم المجتمع، فإذا كانت الأجهزة المختصة قد تراخت في ظروف الحرب، فإن سمعة صناعاتنا وزراعاتنا وتجاراتنا وجامعاتنا ومدارسنا تحتاج إلى تحصين أو فإننا نكون على حافة انهيار بنيوي.

نحتاج إلى عمليات من نوع جديد وقد تكون قاسية  لرأب الصدع ، وإذا شهدت هذه السنة تشددا واضحا فمرده الخوف على الأجيال القادمة، على المستقبل ، وهنا إن إعادة العبارة إلى مفهومها مطلب يومي، فالغش ظاهرة مرضية قاتلة ، وإذا كان ثمة رغبة في تحديث المجتمع أرجوكم لا تحدثوا مفهوم الغش ، فالغشاش في السوق والمدرسة والزراعة والصناعة قد يكون هو نفسه سارق أجهزة الخليوي، وسارق عدادات الماء، والمرتشي ، وشاهد الزور، وبائع الضمير .. وغيرها !

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى