
لفني البردُ ذلك الصباح بيديه المرتجفتين، فالصقيع كاسرٌ مثلُ ذئبٍ جريح، والمطرُ فرَّ بعيداً هذا الموسم، وأنا لم أتخل عن عادتي اليومية رغم الشتاء الغريب الذي عشناه، خرجت مع شروق الشمس أرتدي نصف ملابسي لأشعر بالدفء، ومشيت من بيتي نحو ساحة الأمويين شارداً في تداعيات الأحداث التي وقعت منذ أيام وتغيرتْ فيها السلطة الحاكمة ..
عندما وصلتُ إلى مفارق الطرق التي تصب في الساحة، كانت الحركة قد بدأت، ورأيتُ سياراتٍ قليلةٍ تعبرُ كلَّ الاتجاهات، وفي الجهة التي أنا فيها، قطع الشارعُ فتىً غريبَ الملامح نحيلَ الجسد لكنه قوي البنية تشعُ من عينيه علاماتُ إصرار غريبة.
كان ينظر إلى أعلى جبل قاسيون، وكأنه ترك شيئاً ما هناك ويريد أن يستعيده.
حيّاني، وسألني : من أين يذهبون إلى جبل قاسيون؟
لم أفهم سؤاله، فجبل قاسيون، بالنسبة لمن يطرح هذا السؤال، هو أحياء كثيرة تمتدُ من الشرق إلى الغرب، فهناك مستشفى ابن النفيس وحي ركن الدين، وهناك ساحة شمدين آغا، وهناك الشيخ محي الدين، وهناك مقام الأربعين حيث قتل قابيل آخاه هابيل، وهناك مقام النبي ذي الكفل ومقبرة الشيخ خالد وسوق الجمعة وجامع الحنابلة..
هناك زقاق المدارس ومنطقة الشيخ العفيف و الحرش والجادات وشورى والنبعة والمصطبة والمرابط وآخر الخط ، فإلى أي مكان سيذهب الفتى ؟
سألته مستفسراً : ماذا تريد بالضبط ، فهناك أكثر من خط للميكرو باص يذهب إلى قاسيون ؟ فأي خط تريد ؟
رد بجدية : أريد أن أذهب إلى فوق ! وأشار بيده نحو القمة.
رافقت عيناي إصبعه التي تحركت نحو الجبل، فتراءى قاسيون وقد غيّر الصباح الباكر ألوانه فتوهج مع أول شعاع أرسلته الشمس، وزينته بقايا أضواء لم تنطفئ بعد.
كان قاسيون جليلاً يشبه شيخاً وقوراً يحني ظهره وقد هدّه التعب وأكلت الحياة من جسده ، وكانت بيوته المتسلقة فوق الصخور صعودا نحو القمة تحكي قصصاً غريبة يمكن تفسير معناها بيسر وسهولة ..
ففي الجهة الغربية من الجبل حيث تقع أحياء الروضة والمالكي وخورشيد أبنية عالية وشرفات مزينة ترنو من غرف واسعة على إطلالات خلابة. ومن جهة الشرق أبنية مركبة متلاحمة تحتشد وكأنها أسرة واحدة مؤلفة من آلاف البيوت الفقيرة.
قلت للفتى : فهمت عليك أنت تريد أن تصعد إلى الكورنيش ؟ فهز رأسه أن نعم، فأعدت السؤال من جديد : من أين أنت ؟ أجاب بسرعة :
ــ من إدلب !
ــ لكن لايوجد وسائط نقل إلى هناك ، تحتاج سيارة أجرة .
ــ كم تأخذ سيارة الأجرة لتوصلني إلى فوق ؟
ــ لا أعرف بالضبط لكن ليس أقل من خمسين ألف ليرة !
ــ خمسون ألفا؟
ــ نعم على الأقل ..
ــ وكم يبعد الطريق إلى فوق ؟
ورسمت له مخطط الطريق الممتد أمامي من ساحة الأمويين إلى مستشفى الشامي إلى الجندي المجهول ثم الانعطاف نحو الجبل وصولا إلى الكورنيش .
وأضفت :
ــ يعني بحدود ثمانية كيلومترات .
وسألت :
ــ هل تملك نقودا كافية ؟
ــ لا ، معي عشرون ألف ليرة ..
حركت رأسي بأسف :
ــ لن يقبل معك أحد بهذا المبلغ .
ابتسم الفتى وحرك رأسه بحيرة واضحة ، ثم طرح سؤالاً جديداً في محاولة لإيجاد تبرير للإقلاع عن فكرته : وماذا أشاهد من فوق ؟!
أسعدني هذا السؤال، أحسست بأن علي أن أحكي عن المشهد الذي أحبه ، وأن شرح المشهد لهذا الفتي سيغنيه عن الصعود إلى فوق ، فقلت :
ــ ستشاهد الشام .. كل الشام .. ستشاهدها وكأنك في طائرة.
وأضفت مازحا وأنا أرسم شيئا ما بين ابهمي وسبابتي:
ــ ستشاهدني وأنا بحجم إصبع !
أصغى إليّ بشغف ، ثم ضحك ، وسألني من جديد:
ــ هل يمكن أن أذهب سيرا على الأقدام ؟
ــ ممكن ، ولكنك ستتعب لأن الطريق هو صعودا !
هز رأسه ، ولم يودعني، واتجه نحو جبل قاسيون بحماسة، فقد قرر الصعود مشيا على قدميه!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر