حلب الشهباء في مرآة التاريخ
من المعروف أنّ تكوّن المدن يُعدّ من أهمّ مراحل التطوّر الحضاري في تاريخ البشرية، وقد أخذت المدينة مكانة مهمّة في تطوّر الحياة بمختلف أشكالها، سواء المعرفيّة، بما فيها التعليميّة، أم الصناعيّة والتجاريّة والسياسيّة، كما شكّلت تطوّراً كبيراً في الحياة الاجتماعية من القبيلة والعشيرة وصولاً إلى المدنيّة بمفهومها الاجتماعي الواسع مع بروز عائلات وتكتّلات مهنيّة أخدت طابع التنظيمات النقابيّة في العصر الحديث.
لقد برز كذلك مفهومٌ جديد في المدينة مند بدايات القرن العشرين الماضي، تماشى مع مفهوم الحداثة في مجال مدن المعرفة، تبنّت فيه مدنٌ في القارّتين الأوروبية والأميركية مفهوم التنمية القائمة على المعرفة، وتمكّنت من إحداث تغيّرات جذريّة، بحيث تخطّت مرحلة الأطروحات والنظريّات إلى مجال الممارسة والتطبيق والتحليل والتقييم والتغذية المرتجعة في تصويب المسار (وفق مقدّمة المترجِم في ’’مدن المعرفة المداخل والخبرات والرؤى‘‘، سلسلة عالم المعرفة -381 – أكتوبر2011).
ولئن كان ’’فرانشيسكو كاريللو‘‘ في كتابه المذكور ’’مدن المعرفة‘‘ قد أكّد أنّ التحوّل إلى الاقتصاد المعرفي أو التنمية المستنِدة إلى المعرفة هو خيارٌ لا يمكن التخلّي عنه، فإنّ مسيرة تكوّن المدن العربية والإسلامية أكّدت، منذ قيام الدولة العربية الإسلامية، أنّ البنية المعرفية هي من أهمّ مكوّنات المدينة، وأنّ المسجد (الجامع) والقلعة وقصر الحكم والمحكمة والمدارس والمساحات والحدائق الفسيحة هي من المكوّنات الأساسية لبناء المدن.
تشكّلت مدن بلاد الشام وفق هذه الأسس والمكوّنات؛ وأمام ما يحدث في سورية من تدمير لمكوّنات مدنها، ولاسيّما ما يحدث في حمص ودير الزور وحلب، فضلاً عن المدن الأصغر، سواء في درعا أم الرقّة وتلبيسة والرستن والمعرّة وجسر الشغور والقامشلي وعين العرب وغيرها، ونظراً للمكانة المهمّة والكبيرة التي تمثّلها مدينة حلب الشهباء، فقد آثرت التوقّف عندها تعريفاً بمكوّناتها، أملاً في حثّ الجهات صاحبة القرار عالمياً على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه المدينة ذات العراقة العميقة.
حلب بين الأمس واليوم
شُيِّدت حلب على سبع ربوات في وطأ من الأرض تتوفّر فيه سِعة المكان، وخصوبة التربة، وتواصل طُرق القوافل ومسالك العبور؛ ولعلّ في عراقتها ما جعلها غنيّة بالآثار. فبعد أن تناولتها أيدي الفاتحين على مدى العصور وخرابها مع اللاذقية وأفاميا جرّاء زلازل وحروب، عادت إلى العروبة والإسلام على يد أبي عبيدة بن الجرّاح وعيّاض بن غنم ضمن مصالحة تُعَدّ عملاً سياسياً تاريخياً يُسجَّل لأهلها ولذكائهم في حسن تصرفهم من أجل الأمان وحفظ الأنفس والممتلكات والأموال والأوابد ذات التاريخ العريق الحافظ للذاكرة والأصالة والقدرة على العمل.
وإذا كانت حلب قبيل الإسلام بلدة ثانوية لوقوعها بين مدينتَيْن مهمّتَيْن وكبيرتَيْن في مجالاتهما الدينية والعسكرية هما أنطاكية في الغرب الشمالي لسورية وقنسرين، إلّا أنّ نجمها لمَع مع تطوّر العصر الإسلامي عبر تواصلها مع الموصل في شمال بلاد الرافدَين، وصولاً إلى الحمدانيّين والمرداسيّين، وذلك على الرّغم من تعرّضها للخراب وتدمير أسوارها ونهب بيوتها من قبل الروم البيزنطيّين عند انتصارهم على الحمدانيّين والمرداسيّين. غير أنّها عادت إلى مركز القيادة في مواجهة الغزو الصليبي، فتحوّلت إلى قلعة لحماية الثغور الشامية، بخاصّة بعد وصول الصليبيّين إلى أنطاكية والرّها؛ لكنّ حلب لم تنجُ من اجتياح التتار لها عام 658 للهجرة. وبحكم حيويّة أهلها، استطاعت أن تعيد الحياة إليها خلال قرن واحد فقط، حقّقت خلاله استرجاع مكانتها وقوّتها.
ومع قدوم المماليك ومن بعدهم العثمانيّين في القرن العاشر للهجرة، تداخلت الأجناس والأعراق في المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي انعكس على حلب التي أصبحت خلال الحكم العثماني ولاية كبيرة تصل من الغرب إلى البحر المتوسّط عبر خليج الإسكندرونة، وإلى ولاية ديار بكر من المشرق، ولواء حماه من الجنوب، وولاية سيواس من الشمال في الأناضول، بحيث أصبحت ثغراً إسلامياً مهمّاً، وتلي القسطنطينية وسالونيك مرتبةً وكبراً.
تحوّلت حلب، بفضل مكانتها الطبيعية، ومناخها المعتدل، وطُرق تواصلها، وسمعة علمائها، إلى وجهة طلّاب العلم والمعرفة مع حرص كبار العلماء على القدوم إليها رغبةً في العطاء والاستزادة. فمن العلماء اللّذين أمّوها أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام أبو داوود، وأبو نصر الفارابي، وابن خالويه، فضلاً عن الشاعر الكبير أبو الطيّب المتنبّي، الأمر الذي جعل مدارسها منارات للبلاد الإسلامية كلّها، حيث بلغ عدد مدارسها حوالي ثلاثمائة مدرسة مع دور القرآن والحديث والمساجد، ومن مؤرّخيها أبو الطيّب اللغوي صاحب كتاب ’’مراتب النحويّين‘‘، والهَرَوي أبو حسن صاحب كتاب ’’الإشارات إلى معرفة الزيارات‘‘، ومحمد بن علي بن إبراهيم (ابن شدّاد) صاحب كتاب ’’الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة‘‘، فضلاً عن ابن الوردي وابن الطقطقي، وابن الشحنة، وعمر الشمّاع الحلبي، وابن أبي طيّ الذي ألّف عشرة كتب في التاريخ أوّلها ’’معادن الذهب في تاريخ حلب‘‘.
ونظراً للمكانة التي مثّلتها حلب، فقد لقيت المدينة اهتمام المؤرّخين الذين صنّفوا لها كتباً كبيرة منها: ’’بغية الطلب في تاريخ حلب‘‘، و’’زبدة الحلب في تاريخ حلب‘‘ لابن العديم، و’’تاريخ حلب‘‘ للعظيمي، و’’معادن الذهب‘‘ ليحيى بن حميدة الحلبي بن أبي طي، و’’الزبد والضرب في تاريخ حلب‘‘ لابن الحنبلي، و’’نهر الذهب في تاريخ حلب‘‘ لكامل بن حسين بن محمد بن مصطفى البالي الحلبي الشهير بالغزي، و’’إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء‘‘ لراغب الطباخ، و’’تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر‘‘من تأليف الطبيب البريطاني باتريك رسل المتوفي سنة 1768، و’’معادن الذهب‘‘ لأبي الوفاء بن عمر الحلبي..
استمرّت حلب في علوّ مكانتها خلال الحكم العثماني، وظهر فيها أعلامٌ طالبوا بإعطاء البلاد العربية حكمها الذاتي واحترام لغتها وثقافتها العربية في مواجهة التعصّب التركي الذي قاده حزب الاتّحاد والترقّي، وكان من أشهرهم عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتابَيْ ’’طبائع الاستبداد‘‘ و’’أم القرى‘‘، كما قادت حركة المقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي فخرج منها قادةٌ كبار برزوا في المجالَين العسكري والسياسي منهم سعد الله الجابري وإبرهيم هنانو الذي قاد الثورة السورية من جبل الزاوية حيث كانت محافظة إدلب تتبع ولاية حلب، كما قاد سياسيّوها العمل السياسي الديمقرطي في سورية، فشاركوا، من خلال حزب الشعب والحزب الوطني اللذَين كانا يشكّلان الكتلة الوطنية، طليعة العمل السياسي في سورية، وبَرز منهم رشدي الكيخيا، الذي تولّى رئاسة المجلس النيابي السوري، وناظم القدسي، الذي تولّى رئاسة الجمهورية السورية، وإحسان الجابري، الذي تولّى رئاسة الدولة العربية المتّحدة بين الجمهورية العربيّة المتّحدة واليمن. هذا فضلاً عن شخصيّات سياسيّة أخرى تجمعهم من مختلف الطوائف والأعراف الهويّة السورية المخلصة في بناء دولتهم الجديدة، منهم ليون زمريا وميخائيل ليان وحسن جبارة وعبد الرحمن الكيّالي وحسني الزعيم الذي قام بأوّل انقلاب عسكري في سورية، وتولّى رئاسة الجمهورية فيها.
وإذا انتقلنا إلى الجانب الأدبي، يبرز اسم الشاعر الكبير عمر أبو ريشة الشاعر السفير، الذي طُبعت دواوين شعره عشرات المرّات، وكان لشعره صداه الواسع في جميع أنحاء البلاد العربيّة.
كما تبرز أسماء الأدباء خليل هنداوي، وعبد الرحمن عطبة، وعبد الكريم الأشتر، من دون أن ننسى صاحب ’’موسوعة حلب المقارنة‘‘ خير الدين الأسدي التي طبعها بجهد علميّ كبير معهد التراث في جامعة حلب، وأيضاً رائد الفضاء السوري الأوّل اللّواء محمد فارس.
وبحكم موقعها، تحوّلت حلب إلى عقدة مواصلات تجاريّة بين بلاد الشام والعراق وتركيا، لكنّها بفضل حيويّة شعبها تحوّلت إلى مدينة صناعيّة، ولاسيّما في النسيج القطني، واحتضنَت مهرجاناً سنوياً كبيراً هو مهرجان القُطن والمنتجات القطنيّة التي حوّلتها الصناعات النسيجية الحلبية إلى منسوجات ذات شهرة عالمية، فضلاً عن مدينة طبيّة لصناعة الأدوية وبعض المعدّات الطبّية بالتعاون مع شركات عالمية.
وهكذا، تحوّلت حلب إلى عاصمة صناعية واقتصادية لسورية بحيث اعتُبرت العاصمة الصناعية السورية.
وإذا أردنا أن نتحدّث عن العمارة وتطوّرها في مدينة حلب، لا بدّ من التوقّف عند عمارتها ذات الطراز الإسلامي، سواء بقلعتها الشهيرة أم بأسواقها المتخصّصة، المغطّاة والطويلة، أم بعماراتها الكبيرة، ولاسيّما المساجد التي يقع المسجد الأموي في صدارتها، والمدارس والكنائس، فضلاً عن الحدائق الفسيحة كحديقة السبيل المشهورة، والتي سجّلتها اليونسكو في غالبيّتها من ضمن “التراث العالمي”، وتمّ إبراز مزاياها وهندستها في الإصدارات التي أطلقتها احتفالات حلب عاصمة للثقافة العربية، والتي أسهم في نجاحها مثقّفو المدينة وجامعتها الرائدة، ولاسيّما كلّية الهندسة ذات المرتبة الأولى في سورية.
واليوم، وفيما العالم كلّه يشاهد ما أصاب حلب وأهاليها من تدمير ومآسٍ واندثارٍ ونزوحٍ وتهجيرٍ وعددٍ هائلٍ من الضحايا، يقف الجميع مذهولين ومذعورين من الحالة المُرعبة التي أوصلت المدينة إلى هذا الحال متسائلين عن إمكانية استرجاع الذاكرة الجميلة، والعودة بالمدينة إلى وضعها الطبيعي بدعمٍ عالميّ من المُدافعين عن التراث الإنساني والعالمي، وإيماناً بحقّ أصحابها في الحياة الكريمة والمُنتِجة.
فبلدٌ كحلب..كيف له أن يحترق؟!
* أستاذ جامعي سوري
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)