حمدي العطار: الروائي عبد الكريم العبيدي يقدم: شخصيات روائية “لتيار الوعي” في رواية “ثمانية أيام في باصورا”

 

يرتكز البعض من الروائيين برسم شخصيات روايتهم بالاعتماد على (تيار الوعي) وهذا التيار يختلف بشخصياته الغنية بالتداعيات والاوهام والاحلام والمشاعر والافكار عن الشخصيات في الروايات الواقعية والروايات النفسية، وقدم “روبرت همفري” كتابا بهذا التيار (تيار الوعي في الرواية الحديثة) ويعد مارسيل بروست ، وهنري جميس، ووليم فوكلر وأخرون من هذا الاتجاه، وكان نجيب محفوظ في رواياته (ثرثرة فوق النيل، وميرامار )، من منهج تيار الوعي، ومن الروايات تيار الوعي في العراق هي رواية (خمس اصوات) للروائي “غائب طعمة فرمان

استخدم الروائي اسلوب (تيار الوعي) في روايته (ثمانية ايام في باصورا) وهي تتناول سيع شخصيات (أفراريه) هاربين من الخدمة العسكرية في مدينة (البصرة) – باصورا هي اسم قديم لمدينة البصرة- هؤلاء تخلفوا عن مراجعة تجانيدهم في فترة الحرب بين العراق وإيران ” تم سوقي إلى الجيش “بصفة متخلف”…سيق معي من المتخلفين أيضا:ستة شباب غرباء، وكنت سابعهم… لم نعد مواطنين صالحين بنظر الحكومة، صرنا متخلفين خطرين”ص9 هؤلاء (المتخلفون) ليس لديهم قناعة بالحرب او حتى بإسبابها ، لكن اهلهم اجبروهم على تسليم انفسهم خوفا من الاجراءات الوحشية لأجهزة النظام ضد من يتخلف عن الالتحاق، لذلك هم يمارسون مرة بل مرات اخرى الهروب ليتحولوا من متخلفين الى (افرارية) ، فلسفتهم في هذا المجال (أفضل طريقة لإنهاء الخدمة العسكرية هي أن تهرب منها سريعا)

حاول الروائي ان يصور شخصياته الروائية (الافرارية) من الداخل، احلامهم، افكارهم، مشاعرهم، طريقتهم في الهروب المتواصل من الزنابير(الانضباطية) فهناك في الرواية كثيرا ما تستخدم الشخصيات حديث النفس والمناجاة والمونولوج والهواجس والتداعيات والاحلام، ففي اول يوم ينامون بمعسكر الحلة بعد تسفيرهم للتمهيد لنقلهم الى وحدات قتالية في الجبهة، يحلم كلا منهم في اتجاه رومانسي وجنسي وعاطفي بعيدا عن هموم الجنود والحرب والموت والخوف ( كل منا، في لحظة استيقاظه القسري، يعقد مقاربة تصورية بين معاناة ليلة بائسة اختتمت بفوضى، وبين صورة متخيلة يقنصها بمزاج ماكر ..أحدنا همس بصوت متهجد “كنت اقضي أجمل أمسية مع ربة القصيد غورنكو نلهو في سهوب أدويسا وسيفا ستوبل على ساحل البحر الأسود..ابتسم له المتخلف الآخر ثم سرد رؤيا عذبة راقصة، زاعما أنه استمتع بها كثير.وشاهدت رجالا يشدون على خصورهم الظلوف تهتز أجسادهم النحيلة..انها رقصة النوبان..حالما هزت جسدي رعدة من غوايتها..جرفته الراقصات السمراوات برشاقة أجسادهن، وعبق عطرهن الممزوج بالبخور، وأنغام الجيكانكا العذبة وموسيقى الباتو التي حفزتهن على الرقص.. لم اكن أصغي كثيرا إلى ثرثرتهما .. وحين أصرا على اشراكي ..قلت اسمعا: لقد كنت مع فتاة فائقة الجمال، خلعت ثوبها الفضفاض بحركة خاطفة، ثم دعتني إلى سريرها، مقابل بيعكما في سوق النخاسة، وبدلا عن أن أضيع نصف ثانية في الاجابة، خلعت بنطالي على الفور وأندسست معها، للاعراب عن سرعة موافقتي”ص17

في ثمانية فصول، وكل فصل سيتناول شخصية من هذه الشخصيات وما هي محاولاته في حياة (الفرارية) مع عرض لجوانب من علاقاته الاجتماعية والعاطفية وما هي مصير هذه الشخصيات، وكانت اسماء الفصول كما يلي (صدمة مرحة، ضياع مرح، شيوعي مرح، ربورتاج مرح، صواريخ مرحة، وجودية مرحة، حياة مرحة، مباراة مرحة، خيانة ليست مرحة) وبإستخدم كلمة (مرحة) يدل على ان الروائي استخدم الاسلوب الساخر ليقص حكاية هؤلاء البؤساء من باب (شر البلية ما يضحك).

تأتي شخصيات مكملة للشخصيات الراوائية الرئيسة ، مثل (عمو مشتت) صاحب لمقهى والذي عمل باب خلفي ما هو الا فتحة في جدار المقهى الخلفي، حال ما ير (الزنابير)- الانضباط- يطلق عبارة (مروا علي الحلوين) وبسرعة خاطفة وانسيابية يهرب الجميع سريعا الى خارج المقهى من فتحة الجدار، عمو مشتت يعرف ان البصرة (ثلثها افرارية، وثلت وقود للحرب، والباقي أمراض مزمنة)، هناك شخصية (كاربوف البصرة) كثير الرهان بلعبة الشطرنج ، فرار ايضا حينما يحس بنفسه سوف يخسر الجولة (يمسك بطنه متظاهرا بهيجان الآم قرحة معدته، وهي نوبة ماكرة، طالما اسعفته من الخسائر)، شخصية (وديع) الذي يبيع العرق بالدين، هو ابن (سمعان) الذي توفى بالسكته القلبية، لم يمارس ابنه وديع بيع العرق لمدة شهرين – حتى ضاق به الحال- فأضطر الى العودة لبيع المشروبات..ظن وديع أن أبيه يخبئ شيئا في كيس منفخ ، فمسكه من طرفيه السفليين ورفعه، ثم قلبه ونفضه، فتهاوت “العكل المهيوبة” على الأرض.

أصيب الشاب بدهشة: فتساءل مع نفسه :هل يعقل هذا؟ كونية عكل في مخزن بيع العرك؟.ولمح سجلا كبير مخبئا في أعلى الزاوية، نهض بسرعة وجلبه..وساح في سطور صفحاته.. فأنغمر في موجة ضحك سيالة، وراح يطالع بشوق أسماء الهاربين العركجية المطلوبين في سجل جماعة العكل: 1 صينخ بطيخة.. بطلين عرك زحلاوي.. عكال أبة كركوشة،، 2- باسم هرته.. ربعين ونص ويسكي دمبل.. عكال وبر بني فاتح وهكذا”ص29 ايضا (نعيم) الهارب من الجيش والذي كان يحضر حفل العرس – العريس هارب- وهو ابن مسؤول كبير- جميع اعضاء الخشابة أفرارية، وكان صديق السارد، اما الخطاط حارث ومحله الذي يأوي الفرارية ويتحمل قرفهم وفلسفتهم ونقاشهم وقد كان مضيفا للسارد ونعيم.

وفي نهاية كل فصل يضع السارد خواتيم للشخصيات التي ظهرت في الفصل

*أصيب عمو مشتت بشلل نصفي مفاجئ، وتوفي قبل نهاية الحرب.

*أغلق وديع مخزنه وهاجر إلى احدى الدول الأوربية.

*حوكم نعيم بالاعدام رميا بالرصاص وسلم جثمانه إلى عائلته، وتم تغريمها ثمن اطلاقات الاعدام، ولم يسمح لها باقامة مجلس عزاء!

*عثر على حارث الخطاط مقتولا في محله، ولم يتم التعرف على الجاني.

* ألف شوارع البصرة وأسواقها تجوال مشرد يرتدي قميص ممزق بلا أزرار، وبنطلون مترب كثر الشقوق يدول حوله الأطفال، يسأله أحدهم:عمو ..عمو منو أنته؟ فيرفع المجنون يده إلى الأعلى ويرد عليه: أنا كاربوف البصرة)ص35

وبهذه الوتيرة المتنوعة يكشف الروائي دواخل شخصياته الروائية ، ناسجا توقعاته عن مستقبلهم وخيالاتهم، حتى يصل في كل فصل الى قمة التداعي لهذه الشخصيات والتي تمثل بطولة جماعية وهي (صويحب المطريجي ومعه سلام الاحمر – عوني الصحفي ومعه السارد – اسويف صواريخ ومعه سنيه كلولوش- نصارومعه زوجة خوام – صالح فاوومعه العديد من زوجات الضباط -غسان الرياضي ومعه فوقي ابو اللبلبي وجزاع كاتب التقارير) قصص مثيرة ومترابطة فيها الكوميديا السوداء، وتنتمي الى (شخصيات روائية لتيار الوعي)

 

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى