“حنين” .. الرومانسية القيمية وتطريز متعة الحكي
تقتني رواية “حنين” للكاتبة ياسمين قنديل تقنية “التماثل السردي”، من خلال التوازي بين حركة خارج شخصيات الرواية، مطابقة لحركة نفسية بدواخل تلك الشخصيات. ويطالعنا هذا النهج منذ الكلمات الأولي في الرواية، فحنين بضمير السارد الذاتي تتحدث عن ليلة باردة سابقة نالت منها، ثم أتي يوم مشمس: “كثيرًا ما تمنيت وصول هذا الدفء لثنايا روحي وأن يتغلغل بحنايا قلبي فتهدأ الريح بداخلي، ويذهب ذلك البرد المصاحب لهما”، فالبرد المتغول في الطقس مثيل هذا البرد والظمأ إلى العاطفة التى تجتاح “حنين”.
والرواية تعزف بعنوانها وشخوصها منحي النبل الرومانسي الأثير، من خلال تحرير المفاهيم، خاصة مفهوم مركزي عن تثمين الحب في الحياة، حيث تدفق الحكي في تطريز قطع طيبة من الكلمات حول المعني الجليل، نموذجًا: “مشكلة الحب أنه يتسلل بنعومة داخل قلبك ويبدأ يكبر ويكبر رغمًا عنك حتى تقف ذات يوم وتذهل من حجمه .. الحب هو ذلك الطريق الذي تجد نفسك واقفًا عليه فجأة فلا تستطيع الرجوع ولا تعلم ما أنت مقبل عليه .. قلبي التعب يريد أن يرتاح قليلًا علي ضفة حب تمنحه الحيوية من جديد فينبض نبضًا مختلفًا طالما اشتاق إليه”، “أنت في حاجة لحب يحيي تلك الورود الذابلة بقلبك، ويزرع بنفسك الأمان من جديد”.
ومحبة “المحبة” في الرواية لا تذهب بعيدًا عن القيم النبيلة، بل لا تتحقق كينونتها إلا عبر جسر تلك القيم، وتاج منظومتها الذي يتجسد عبر “الفعل”، فيما يمكن تسميته “البستنة القلبية”، تقول الساردة: “.. سأحكي له عن كل شيء في حياتي وأشركه في كل أمري .. سأجعل أمطاره تحيي كل شيء جميل بروحي، وأرعى بساتين قلبي بقربه، ونفجر ينابيع الود معًا بعد سنين عجاف”. “أعجبني قلب هاشم الغض العفيف المغلف ببراءة الأحاسيس وجذبني اهتمامه .. أن تجد شخصًا متيمًا بك، عاشقًا لتفاصيلك الصغيرة، يهتم لأمورك البسيطة التي تتخيل أن تشغل بال أحدهم يومًا ما”.
يقال إن المال لا يجلب السعادة .. أظن من قال هذه المقولة لم يعش الفقر يومًا ما .. قد لا يجلب المال شعور السعادة ولكن فقده يجلب كثيرًا من المشاعر المخيفة
ولا ترى الرواية المحبة الحقة إلا في فضاء قلب خصب: “القلب الغض العفيف المغلف ببراءة الأحاسيس”، ثم يربو ويزيد: “ذلك الحب الذي يزداد تدريجيًا يومًا بعد يوم، وموقفًا تلو موقف، وفرحًا تلو فرح، وحزنًا تلو حزن ..”.
وفكرة نبات الحب، الذي يثمر وينمو كما قالت “حنين”: “بمراعاته لي، واحترامه لعقلي، وإحسانه لقلبي”، جعلتها تقر صنوفًا للحب وتصك فكرة “حب العشرة” وأنه يختلف عن “حب العاطفة”، بحيث لكل نوع منهما ميزة خاصة: “قد يكون الحب العاطفي أقوى في مشاعره وأحاسيسه، ولكن حب العشرة هو الأكثر ثباتًا”.
وعشق الفنون مثيل لمحبة “المحبة”، فهما صنوان حيث يرقق الفن الأفئدة، وحديث الساردة عن فن الخط العربي، حيث برعت في الخط الطاوسي المتخايل “الديواني”: “أجمل ما في الخط العربي سلاسته ونعومة جريان الحبر على الورق، فتخرج الحروف بشكل بسيط وأنيق، لكن بالرغم من بساطته فهو يحتاج لكثير من التركيز والتدريب، للتحكم بزوايا القلم فينتج عن ذلك لوحة فنية بديعة من الكلمات”.
وتلك الثيمات الموضوعية العذبة مطرزة بمتعة حكي خطي الزمن ذات ذاكرة سردية ارتدادية تقوم بردم فجوات في الحكي، وإنارة سياق تاريخي للشخصيات الروائية الرئيسة. لم يكن الإهتمام متعاظمًا بتقرير التقارير الوصفية للسمات الجسدية، بل ترحيب السرد الباهر برسم القسمات النفسية للشخصيات الروائية في المقام الأول. كما كان التشويق الحكائي عبر الاستباق السردي بتحفيز القارئ للقادم الروائي عبر عبارات تشير لذلك، مثل الحدس الذي يشكل هذا الشعور الباطني الغامض: “.. فبداخلي شعور غريب لا أستطيع أن أحدده هل هو عدم ارتياح أم الخوف المعتاد مع بداية أي شيء جديد .. لا أعرف .. ولكن كانت تنتابني رغبة في البكاء لا أعلم سببها!!”.
هذا الإعلان السردي يشوق القارئ لبقائه في صحبة الحكي حتى يعرف السبب مرافقًا الشخصية. وهذا التطريز جاء بمتعته عبر فعل الحكي التليد القائم علي سرد متعدد الذرى، مع التصعيد في مساحة القوس السردي في كل مرة، وعبر كل ذروة من ذري السرد، بمعني أن الذروة الأولي تمثلت بتقدم حمزة الشاب الغامض الخلوق لخطبة “حنين” بطلة السرد، ثم انصرفت الأزمة إلى لحظة تنوير “حل” بتمام الخطبة السعيدة، لتبدأ علي الفور الرحلة إلى ذروة عصيبة أخرى أعلى وقوس أكبر ومضاعف القسوة بإختفاء حمزة المفاجئ من حفلة الخطبة.
وهكذا تبعث الحدوتة بأشعتها أكثر من مرة والتي اعتادها القارئ العربي والتي تتفق مع ذائقته. وأرى أن ما جعل الحدوتة مشعة ليس لاتفاق السرد مع أصالة التلقي في المقام الأول، بل كان عبر هذا التأمل الطويل في النفس والجانب الاجتماعي، ورعاية التفاصيل الروائية، فكان الحديث حول فلسفة الوجع ومواضعات اجتماعية شائهة: “نحن مجتمع إذا لم تسر الفتاة في المسار الذي وضعه لها لن ُترحم”.
وعن أسس الزواج المشوهة: “.. لسنا بضاعة ُتباع وتُشتري، ويجب أن يتأكد التاجر من جودتها قبل الشراء، وأن الحياة الزوجية لا ُتقام على هذا الأساس“. وعن الوجع: “أن تكون شخصًا يهتم بالتفاصيل الصغيرة هذا يعني أنك ستتألم كثيرًا”. “ذلك الوجع .. إنه الانفجار الذي يحدث في الكون الذي داخلك ولا يصدر ضجة .. انفجار صامت لا يسمع الآخرون مدى دويه ..”.
ثم كان العزاء بفلسفة الألم الرائقة برصد “مزايا الجرح الخفية” بتعبير الرواية، حيث النضج واكتواء الذهب الإنساني بنيران المحنة الطاغية: “شعرت خلال الفترة السابقة أنني كبرت لأعوام، نضج تفكيري وآرائي وكذلك ردود أفعالي، فهذه إحدى مزايا الجرح الخفية .. أنه يصنع بنفسك ما قد تعجز أنت عن صنعه .. يزيد من عمرك العقلي ومن حكمتك في اتخاذ قرارات حياتك .. أخبرني بمدي جرحك أخبرك بعمرك الحقيقي .. أخبرني بعمق جرحك أخبرك بمقدار حكمتك”.
إنه الوجع الذي يحمل في طياته الرحمة بتعبير الرواية، حيث تمثلت القيمة بجلاء مبهر: “حزن يقربك من الله خير من فرح يبعدك عنه”، ثم الرقي بالألم للحقيقة الخالصة، عبر تضمين مقولة د. مصطفي محمود: “علي خطايانا يجب أن نبكي حقًا .. وليس علي أي هجر، أو أي فراق، أو أي مرض، أو أي موت .. وذلك حال الذين قدروا الله حق قدره”.
وتقدم الساردة وصفة علاجية للجرح وكيفية تقليل قرصنته التي تذهل النفس: “عندما تفشل في نسيان ما تود نسيانه وتعجز عن إصلاح جرحك .. فلا ترهق نفسك بتكرار المحاولات، دع جرحك يسير إلى جوارك، جنبًا إلى جنب ولكن دون أن تعره اهتمامًا .. لا تنصب عينيك عليه، لا تستمع إلى أحاديثه .. وألزم الدعاء”. وتنتقي الرواية جواهر الكلام لتثبيت متعة حكي القيمة، فنجد تضمين مقولة الرافعي: “أيها الحزن القابع في حنايا قلبها، غادر بصمت وأنا سأتكفل بزرع دروبك العارية وردًا”.
ويقدم السرد خلاصات عرفانية حول نوع من أنواع القدر، وهو الذي تمثل لنا ولا نعلم حكمته: “أصعب الأقدار تلك التي لا تظهر الحكمة من ورائها في الدنيا، التي ستظل تحتفظ بغموضها لتتجلي بحقيقتها الكاملة يوم القيامة”.
كما ضم السرد الفكري الإقتصادي الذي لا نجده كثيرًا في السرد العربي حول التنمية خاصة عبر فكرة سوق رأس المال الأولي، وهو سوق مهم ويعني تأسيس الشركات والكيانات الإقتصادية الجديدة: “كيف حل مشروعكم الجديد يا أبي؟ أجابني وقد ظهر في عينيه الحماس: الأمور كلها بخير والحمد لله .. ما زلنا في مرحلة تجميع الموال من الشركاء وسنبدأ بعدها في الشروع بشراء الأرض، ثم شراء المعدات، ونبدأ بالبناء إن شاء الله”.
وعندما وضحت رأيها عن المجازفة الكبيرة بالمساهمة في الشركة، قدم مبرره الاقتصادي: “كما أنني شاركت بجميع أموالي فيه، لأحصل على أكبر قدر من الأسهم وفي المقابل سأحصل على أكبر قدر من الأرباح”.
وخلاصة أخرى حول المال: يقال إن المال لا يجلب السعادة .. أظن من قال هذه المقولة لم يعش الفقر يومًا ما .. قد لا يجلب المال شعور السعادة ولكن فقده يجلب كثيرًا من المشاعر المخيفة”. وهنا نجد تحقيق توازن النظرة لمكونات السعادة، ثم يقوم السرد بتحرير الفكرة بوضوح تام من خلال فكرة بستنة المحبة أسريًا: “فمن مبادئ سيد التي كان يخبرنا بها أنه لا يهتم بزيادة أمواله بقدر ما يهتم بزيادة عدد الساعات التي يجلي فيها مع أسرته .. أعجبني مبدؤه هذا، فالمال يزيد وينقص أما دقائق العمر الذاهبة فلن تعود ثانية ويجب أن نتمتع بها بقرب من نحب”.
ميدل إيست أون لاين