فن و ثقافة

حول النص والحقيقة

أدونيس

حول النص والحقيقة

۱

في الرؤية الدينية، بعامّة، أنّ النص الديني مكان الحقيقة وبيتها، لا أعترض على هذه الرؤية إذا اقتصرت الحقيقة الدينية، حصراً، على المؤمنين بها حصراً، وعلى النص الديني حصراً. لكنني أعترض عندما يصبح النصّ الديني معياراً في النظر إلى النصوص غير الدينية، وعندما تصبح حقيقته هي كذلك معياراً تقاس به الحقائق الأخرى، أو تفرض في مؤسسة ثقافيّة – اجتماعية- سياسية تطالب غير المؤمنين أن يلتزموا بها وألّا يفكروا بطرق تؤدي إلى حقائق أخرى غير دينية.

تلك هي المشكلة الكبرى في الثقافة العربية – الإسلامية، فالنصّ الديني فيها هو في آنٍ نصّ ثقافي واجتماعي وسياسي. والحقيقة فيه أمّ الحقائق جميعاً، لا تعارُض معها، ولا خروج عليها، فهي بمثابة قانون للحياة ولا يوصف الخارج عليها بأنه «يفكّر» بل يوصَف، على العكس، بأنه «يكفر».

والتكفير لا يسلب الإنسان حريته وحدها، وإنما يسلبه كذلك إنسانيته. المكفّرون يدمرون، باسم النصّ الديني، ما أعطاه الخالق للإنسان تمييزاً له عن سائر المخلوقات: العقل، والحريّة والإرادة، ويمكن أن يقال، انطلاقاً من ذلك، إن الذين يكفّرون الآخرين يعطون لأنفسهم حقوقاً لم يعطها الله لرسله وأنبيائه: «إنك لا تهدي من أحببت، ولكنّ الله يهدي من يشاء»، «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». فإذا كان الأنبياء لا يقدرون أن «يهدوا» فبأية قوة أو حق يعطي الإنسان لنفسه الحق بهداية غیره؟ وبالأحرى الحق بتكفيره؟

تاريخيّاً، أدّت «ثقافة» التكفير إلى ثقافة الامتناع من التفكير، أو إلى ما يمكن أن نسمّيه ثقافة الاجتناب. اجتناب الأساسي في كل شيء: في الدين، في الفلسفة، في العلم، في الشعر، في السياسة، في الطبيعة وفي ما وراءها: لا مجال له، في التفكير والمساءلة والكتابة إلا في ما حُلّل. وما حُلّل ليس إلّا جزءاً يسيراً من «جسد» العالم. هكذا لا يعود ما «يجسد» نفسه إلّا مجرد مادة للنبذ والإقصاء والحجب.

٢

لكن، ما «الحقيقة» في النص غير الديني؟

لا تكمن خصوصيّة هذا النقص، بدلالتها العالية، في كونه «حقيقة» بل في كونه «إبداعاً».. لا تكمن في كونه «واقعاً»، بل في كونه «تخيّلاً». فلئن كانت هناك حقيقة فهي في الإنسان نفسه، حرية وإبداعاً.

هكذا يبدو أن أخطر ما في النص – الحقيقة، أو الحقيقة – النص، أنها نص – جماعة، نص – أمة، نص – نظام. ويعني هذا أنهما محوٌ للذات والفرادة. لا تعود الحقيقة تجربة ذاتية، وإنما تصبح «مُلْكاً» جماعيّاً.

٣

النص الديني «حاضن» الحقيقة و«مالكها». ذلك هو جوهر الأديان الوحدانيّة الثلاثة. وفي هذا ما يفسر العنف الذي يلازم الرؤية الوحدانيّة منذ نشوئها على ضفاف المتوسط. ويوضح تاريخ هذه الرؤية أنّ الواحديّة، منذ انتصارها على التعددية، أوغلت في التأسيس لأنظمة العنف، أنظمة «الواحد» الأرضي، تطابقاً مع «الواحد» السماوي، ومدار هذه الأنظمة هو الموت، دفاعاً عن «الواحد»، وعن نصّه، النص – الحقيقة.

تبدو عبارة «موت الله» التي استعارها نيتشه من هذه الضفاف ذاتها، بعيدة عن الواقع. فالواقع هو أنّ من مات أو يموت إنما هو الإنسان، فلم «يحيَ» الله في اللغة والفكر والعمل مثلما يحيا الآن، على هذه الضفاف. ولم يمت الإنسان، في أي مكان في العالم، کما يموت بين أحضانها اليوم، في هذا العالم ذاته.

والحق، استناداً إلى التجربة التاريخية، أنّ الإيمان بالإله الواحد الأحَد، لم يرتفع بأخلاق البشر، كما كان مفترضاً، إلى درجة أكثر علواً مما كانت عليه أخلاق المؤمنين بآلهة متعددة، خصوصاً على صعيد القانون، واحترام الإنسان بوصفه إنساناً، في معزل عن معتقداته أيّاً كانت، وعلى صعيد السياسة حين تُمتحن الأفكار، والعلاقات، والممارسات في النظر إلى الآخر المختلف. بل إن الموحّدين نقلوا مبدأ الإله الواحد من السماء إلى الأرض وترجموه إلى مبدأ آخر – مبدأ الحاكم الواحد. وبذلك تفوّقوا في ابتكار الطّغيان ووسائله.

أضيف هنا ما يقوله جورج شتاينر في كتابه «الحنين إلى المطلق»، بوصفه تكملةً وإضاءة، وخلاصته أنّ العلم لبّى تطلّع الإنسان إلى النظام والجمال، وإلى الصدق الأخلاقي بشكل أفضل مما فعل الدين.

صحيفة الأخبار اللبنانية

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى