«حياد إجباري» و «ميول» في مختبر دمشق: الجسد مرآة للحرب
يواظب الكريوغراف معتز ملاطيه لي منذ سنوات على تطوير المختبر السوري الراقص، كنواة لمسرح حداثي له أدواته التعبيرية الخاصة في قلب الأكاديمية الوطنية الأكثر شهرةً في البلاد، مشتغلاً هذه المرة في «المختبر السابع عشر- مسرح سعدالله ونوس» على الجسد كمرآة للحرب. العرض الذي حمل عنوانه كدلالة على تاريخ أول عرض تخرّج لقسم الرقص في المعهد العالي للفنون المسرحية منذ تأسيسه عام 1997، توزع على جذءين، أدت الأول منه الراقصة أنجيلا الدبس تحت عنوان: «حياد إجباري» فيما أدى الجزء الثاني منه معتصم الجرماني تحت عنوان: «الميول».
تجربتان مختلفتان على صعيد الرسم الحركي للجسد، استفزتا طاقات داخلية لراقصين على عتبة الاحتراف، ليؤدي مع الجرماني كل من الراقصين: سماح غانم، وصبا رعد، وحازم الجبة، متجهين إلى أقصى اعتراض الجسد على هويته، رافضين الأحادية في تصنيف ميوله وغرائزه؛ نحو ما يشبه انعتاق عن السائد والمتداول في وظائف الجسد اليومية، إلى تشريح خصائص هذا الجسد في مواجهة الحرب، ومحاولة ترويضه هو الآخر، وجعله موئلاً للعبث بفرديته وعدم انصياعه لصيغ العيش التقليدية.
الراقصة أنجيلا الدبس هي الأخرى قدمت في «حياد إجباري» تورية مختلفة مع موسيقى محمود محمد متخذةً زاوية نظر مغايرة لجسدية أنثوية بدنية الطابع، وذلك وفق ارتطامات متتالية على الخشبة، عشقتها بلعب مع جدران المسرح، مستخدمةً التواءات جسمانية ومداورات لنساءٍ يرفضن الوقوف على الحياد من الحرب الدائرة، لتحقق المصممة الشابة مع كل من: لارا بخصار، ورند شهدا، وسارة المنعم، ما يشبه مجابهة مع العزلة والخوف والرغبة في التحرر بآنٍ معاً، ولتكون الراقصات الأربع على تماس مع جدران وهمية؛ لا تنفع معها قبعة الإخفاء للتواري عن محيط اجتماعي، يأبى إلا ممارسة تصنيفاته وسطوته الأبوية عليهن.
الجرماني والدبس ذهبا في تصميمهما الحركي الجديد نحو أداء تكوينات رقص معاصرة، انتهجت أسلوبية مسرح جسدي حاول عبر أزياء ريم شمالي وإضاءة كل من طاهر سلوم والمنتجب عيسى، إنتاج مستويات رمزية تسمو بالجسد نحو لغوية حركية؛ قوامها التعبير عن ثراء العالم الداخلي للراقصين، وذلك من خلال إيماءات الوجه والصرخات والعبارات المكتومة التي كان كل من الدبس والجرماني يركزان عليها في توليد الحركة وتدويرها على مساحة فارغة صمم الديكور لها نزار بلال، واضعاً لوحة في العمق لا تخلو من تفريغ لهياكل جسمانية؛ التجأ إليها الراقصون في عمق الخشبة، لترسمها الإضاءة وتخفيها أو تظللها، وفقاً للتغيرات الدرامية التي يمليها الراقصون في تقديم مفاتيح فهم للعرض الذي أنتجته وزارة الثقافة السورية.
من هنا مضى كل الجرماني والدبس تحت إشراف الكريوغراف ملاطية لي إلى تنويعات خاطفة على مدارس الرقص الحديث والمعاصر، راكنين إلى اللعب الحر والبريء في إنتاج مشهدية بصرية تسعى اليوم إلى البحث عن خصوصيتها في ظل الحرب القائمة، مناهضةً في قيمها التعبيرية كل أساليب الأداء المعتادة في الريبرتوار السوري، باعتبار الرقص بحدِّ ذاته دراما لا وصيفاً درامياً، وحيث تكون الحركة ألف وياء العرض، وترجمانها فوق العادي لإيصال قراءات يكون فيها الجسد بعيداً من إسقاطات اجتماعية وقبلية وجنسية.
مغامرة يخوضها اليوم راقصون سوريون بين الخراب والدم، مستعيدين صوراً من ثقافة رفعت شعار جيل بات «ينظر إلى الوراء بغضب» ثائراً على الأنماط المسرحية القديمة التي ما برحت تلبس وقارها القومي، معتمدةً على طوفان من الثرثرة الحركية والكلامية، ليكون الرقص في مقدمة هذه الثورة على أوثان فنية اكتملت أشكالها الفنية، ولم تعد تجدي في تصوير عمق الكارثة التي تتعرض لها البلاد منذ آذار(مارس) 2011. مع هذا وكله يبدو الطريق طويلاً أمام الراقصين السوريين الذين لا يزالون يقدمون عروضهم داخل مختبر يقتصر جمهوره على المختصين والمهتمين بالرقص كأداة للتثوير الفني والاجتماعي، حيث من الصعب بمكان تقديم مثل هذه العروض على خشبات العاصمة، أو التفكير بفسح المجال لجمهور عريض لمتابعتها.
صحيفة الحياة اللندنية